لم أكن أعلم أنه بإمكان المرء أن يتقي الشر؛ بتفادي التواجد في المكان الذي قد يحدث فيه، وبعدم حشر أنفه في ما لا يعنيه، أو قد يؤذيه إذ يعنيه؛ لم أكن أعتبر نفسي كباقي البشر، وأني أشط عن هذه القاعدة، أظن أنه بإمكاني الوقوع في أية ورطة والخروج منها بلا خسائر تذكر، على اعتبار أن لي قوة جسمانية قل نظيرها، ورجاحة عقل فريدة تمكنني من أن أقول أي شيء وأبرره، كما أن لي ذكاء خارق يجعلني أنجح في التعامل مع جميع الحالات الممكن حدوثها، وأني حصيف وظريف، كما أن قدرتي على الإقناع وقوتي الاقتراحية عاليتان جدا، باختصار شديد جدا: كنت دائما زعيما بين أقراني في الصغر وكذا في الكبر. تلك كانت قناعتي إلى أن حدود ذاك النهار: إذ كنت ألج بوابة السوق، فاصطدم بي أحد المتسوقين، كان طويلا، وضخم الجثة كما "الكوريلا" في عز اكتمال نموها. وحينما لم يطلب مني مسامحة ولا حتى هز التفت نحوي، آنئذ أتى شخص من الخلف - لم أكن أعرفه - ونبه " الكوريلا "قائلا: - انتبه أيها البغل المغفل، ألهذا الحد أنت قليل الأدب؟!. لم يكن يدري المسكين أنه لم ير من الرجل سوى نصف قامته؛ إذ كان معقوفا يحزم خيوط حذائه أو بالأحرى حبال سفينة قدمه، ( التي جعلته يتعثر ويصدمني كما القطار ). لما عاد العملاق لطوله الحقيقي، تبين - وبالملموس – أن لا شيء قد يعلوا فوق رأسه عدا السماء، وأن فن الحوار و لباقة الحديث لا تعنيه في شيء: أحاط كفه اليمنى حول عنق القصير، ورفعه - بلا صعوبة - عاليا مكان الثريا أو أدنى، وبقي القصير بالكاد يتنحنح، ورجلاه تسبحاني في الهواء دون أي تقدم؛ كأنه يصارع تيار " تسونامي " ثم أعاده ثانية إلى كوكبنا؛ ربما ليترك له فرصة لقراءة وصيته الأخيرة. بما أنني من كنت سببا في ذاك الخلاف، دون وعي مني انحشرت بين المتعاركين؛ وضعت كفاي على بطن الضخم الطويل، فتلك كانت أعلى منطقة طالتها يدي - علما أن قامتي طويلة كما يشهد لي بها الأصدقاء – ثم دفعته كي يطلق من خناق خصمه، وبالمنكبين ساعدت القصير كي يتقهقر؛ لينقذ روحه قبل أن تروح، وكنت آنذاك أصيح: - عباد الله العنا الشيطان....!. وبقيت أُخضْخَضُ في كل الجهات ردحا من الزمان ونيف، وربما كنت رسمت بجسدي في الفراغ أشكالا هندسية لم تخطر على بال " فيتاغورس " حتى كدت أفشل في مهمتي النبيلة، والقيام بواجبي كمواطن؛ إذ أن القانون يلزمني بالتدخل في مثل هكذا حالات ؛ بل ويعاقب كل من كان حاضرا في عراك ولم يتدخل لانقاد روح بشرية ، أما أرواح الحيوانات فتلك أسند أمر الدفاع عنها للجميلة " بريجيت باردو ". الغريب في الأمر أن كل من كان بالسوق تحلق حولنا، فشكلوا حلبة للمتصارعينِ، أحدهم كان ينظر إلي، ويلوح في اتجاهي، سمعته يقول لي: - يا صاح! دعهما يتشاجران... بصقت في اتجاه وجهه ولعنته قائلا: - تبا، لَكمْ هو عزيز عليكم رؤية دماء إخوانكم المسلمين! بل أين منكم أخلاق النصارى ؟. وعدت لمتابعة فك الشجار، فأشبعت ضربا ورفسا، تأرجحت يمينا ويسارا، رفعت عاليا وخبطت، وتشابهت على الطويل منهما الآذانُ فعض أذني اليمنى، حتى كاد يقتلعها لو لم أنبهه أني صاحبها، وضربني القصير تحت الحزام، حتى كاد يغمى علي، تمددت بفعل حرارة الشجار، وتقلصت، بل أعقفت وأدخل رأسي بين فخذاي حتى ضرطت، وأما معطفي وسروالي فقد مزقا كما لو كانت أظافر أحدهما أو أظافرهما معا شفرات حلاقة شطرته قطعا غير متساوية، وبعدما كل ساعدي، وتراخت كل عضلاتي حتى طواني التعب ، رأيت الطويل وقد أخرج من كمه الأيسر سيفا ولوح به في وجه المتحلقينَ حولنا، فافْرنقعوا جميعا في وجهات مختلفة، ولما أفسح له المجال، لم أصدق أنْ أراه يفر كالجبان من معركة كان هو سيد الموقف فيها! وزدتني استغربا؛ لما لمحت القصير يضرب بقبضته اليمنى كفه الأيسر ويصيح: - والله لألحقن بك ولو هربت إلى الجحيم. لم يقتنع القصير بأن منظره كان أثناء العراك كنملة صغيرة الحجم تصارع فيلا ضخما. لم يتردد في اللحاق بالعملاق ولأجل ذلك أطلق ساقيه للريح. رجع الجمهور إلى المكان الذي كان حلبة الصراع، ففهمت مسبقا أنهم سيحاولون أن يستقوا مني تفاصيل الحدث؛ كي يرضوا حب استطلاعهم، ويتلذذوا بسرد الحكاية كاملة على مسامع أصدقائهم والخلان وقت سمر. عزمت ألا أمكنهم من تحقيق نشوتهم المفضلة قبل أن أصب فيهم جميعا جام غضبي، وأصفهم بأحقر النعوت، وبعدها أستمتع أنا قبلهم بتمثيل دور الراوي، وأشنف مسامعهم – في سياق سردي للحكاية - حكما وموعظة حسنة كي يخلدونني بطلا دونا عنهم جميعا.كما أني اعتبرتها فرصتي الثمينة كي أتباهى بشجاعتي، وبتمثلي للقيم التي نادى بها الإسلام، فربما توجوني رئيسا لمجلس بلديتهم في الانتخابات القادمة، " إن شاء الله " لِمَ لا؟. لكن قبل أن أنبس ببنت شفة، بادرني بالكلام من كان يشير علي - وسط المعركة – بعدم التدخل بين المتقاتلين. - عوضك على الله في ما انتشل منك...!.