كنت مغرما في طفولتي التي جرت فصولها في مدينة القصر الكبير (التي لم ألقها إلا بكيت ولم أفارقها إلا بكيت لأن فيها "سيدة المقام") مغرما بمجالسة كبار السن للاستماع الى ذكرياتهم وتجاربهم. وكثير من هؤلاء عاصروا فترة الاستعمار وعاشوا مرحلة الاستقلال وشارك بعضهم في مقاومة المستعمر الغاشم. سمعت كثيرين منهم يرددون هذه العبارة الدالة بدارجة بليغة "هادا "الشّي قلال" ما شي الاستقلال" (الشي قلال =قلة ذات اليد). لا أحد يمكنه المزايدة على هؤلاء في وطنيتهم فكثير منهم لبى نداء الوطن مخلصا عندما احتاج مساعدته.كثير منهم مواطنون بسطاء لم يقرأوا البيانات التنظيرية لحركات التحرر العالمية. كثير منهم لا يفقهون شيئا في الأدبيات الماركسية ولا مبادئ "الحركات الإسلامية الجهادية" كثير منهم يتلعثم لسانه وهو يردد النشيد الوطني لأن الظروف لم تتح له الدخول إلى المدارس التي افتتحتها الحركة الوطنية في بعض المناطق المغربية. كثير منهم أحب هذا الوطن حتى الوجع. ولما جاء أوان الحصاد لم يتذكرهم أحد. لقد قاموا بكل الاستعدادات لمراسيم "العرس" الذي حضره "أبطال" آخرون عرفوا كيف يظهرون على مسرح الأحداث في الوقت المناسب. لهؤلاء البسطاء الذين عرفت بعضهم في حقول القصر الكبير حينما كانت الحقول ملاصقة لحينا. ولكل من شارك في مقاومة الاستعمار ولم تسمح له عزة نفسه أن يطالب بثمن الحب الذي بذله لوطن عشقه حتى النخاع أقول: تحية بحجم الحب الذي حملتموه لوطن يقسو على أبنائه الذين قبضوا على جمرة حب الوطن ولم ترتعش أصابعهم ولا تغيرت مشاعرهم لأن من يحب لا يعرف أن يكره.