دار وحكاية سلسلة رمضانية بعدها الأستاذ عبد المالك العسري ، حلقة اليوم تكتبها الأستاذة نسيبة الطود . *** في خضم الحجرالصحي الذي ألزمنا بيوتنا،وبحكم تواجدي خارج بلدتي،تنتابني من حين لآخر لفحة شوق ،وحنين جارف لذكرياتي بمنزل أسرتي الذي عشت فيه ردحا من الزمن، كان وسيظل موشوما في الذاكرة ما حييت. قبالة “الفارونا” بساحة مولاي المهدي، يمين شارع عمر بن الخطاب بحي اسكرينيا، ينتصب بيت العائلة. مدخل أفقي طويل، يفضي جهة اليسار إلى الدار الكبيرة ، ومن الجهة اليمنى إلى الدار الصغيرة. الدار الصغيرة ، حيث نسجنا إخوة وأخوات علاقات مليئة بالحب والشغب الطفولي الجميل ، بعيد عن أعين والدة (أطال الله في عمرها ) منكبة على تربية واحتضان الصغار منا ،وخفية وتوجسا من صرامة والد (رحمة الله عليه ) حريص في حضوره على فرض وضبط النظام – خصوصا وأننا أسرة متعددة الأفراد على شاكلة أغلب العوائل آنذاك – ،إضافة إلى حضور وازن حنون رؤوف لجدة طيبة سمحة ، فتحنا أعيننا عليها مقيمة معنا في قلب الدار. جدتي لأبي، السعدية برادة ذات الأصول الفاسية التي طالما اعتزت بها، و بالمقابل كانت شديدة الشعور بالانتماء للقصر الكبير، المدينة التي جمعتها بزوج طيب حنون راجح العقل جدي المرحوم عبد الكبير الطود الحسني الذي فقدته في عز شبابها ، حيث كانت تردد دائما بلكنتها الفاسية الواضحة: “أنا فاسية بوالدي ،و قصرية بوليداتي “. فقدت “مي لالا” القدرة على الوقوف والمشي، إثر صدمة تلقتها جراء اعتقال ابنها ، والدي مع ثلة من الوطنيين الأحرار سنة 1956 وبقي مدة طويلة مجهول المصير ، لتلزم فراشها إلى الأبد وليظل ظهرها الملجأ الوحيد لنا عند كل غضبة أبوية عاصفة ، فكانت دعوة خير واحدة من فمها له ، كفيلة بثني المرحوم عما كان يهم به تجاه المشاغبين الصغار منا . كنا نتسابق على برها ونتفانى في خدمتها ، صغارا وكبارا، إناثا وذكورا ، نحضر طلباتها بكل فرح ومحبة، وهي توزع علينا دعواتها الطيبة من قبيل : “سير يكون منك الزرع والزريعة والحارث و الوارث “. أما أمي ، فقد كانت دائمة التواصل معها ، إما مستفسرة عن أحوالها أو طالبة منها رأيا سديدا تسترشد به أو ملبية بعضا من طلباتها التي لا نقوى عليها نحن الصغار. كلما ازدادت مولودة أومولود جديد إلا وكانت “مي لالا” تكاد تطير من الفرح ويهفو قلبها إلى تقبيله و ترقيصه من حين لآخر فوق ركبتيها الجامدتين مرددة أغانيها الخاصة بها لترنيم الصغار وترقيصهم مختارة إياها بعناية فائقة ، كأن تنشد للأنثى : “سعدي سعد السمانة، صبتها فالخلا حضانة، قلت لها اعطيني وليد، قالت لي شتديري به، قلت لها للالا بنتي تلعب لي به ” أو كأن تنشد للذكر : “سيد السيد السيد ،من الجامع للمسيد، البلغة والكسا جديد “. كانت “مي لالا” دائمة السؤال عن الساعة و هي في حجرها الدائم، لم تغادر سريرها قط إلا بمساعدة نسوة تساعدنها على الجلوس فوق أريكة خشبية، إما لتغيير الأفرشة وتوضيب السرير وتنظيف الغرفة،أو لحملها إلى “حمام بريطال” للقيام بطقوس التحميم بعيد الفجر تجنبا للازدحام. و أذكر وأنا طفلة،ذات عودة من مستحمها، استقبلها أخي الأكبر جمال الدين، وحملها بين ذراعيه كطفلة في ربيعها الأول، واخذ يطوف بها كل أركان الدار،التي لم يسمح لها المرض بالاستمتاع بها ، يجلسها تارة في هذه الصالة وتارة أخرى في هذا البهو أو هذه الغرفة ، تحت دعوات خير صادقة نابعة من قلب و وجدان الجدة. أما الدار الكبيرة جهة اليسار، فكانت فضاء لاستقبال الأهل والأقارب رجالا ونساء ، أيام الجمعة والأعياد والمواسم للاطمئنان على الجدة الفاضلة باعتبارها كبيرة العائلة آنذاك . وكانت أيضا مجمعا لكل الأحباب والجيران ، تقام فيها احتفالات المولد النبوي الشريف بتواتر منتظم استمر إلى زمن قريب ، كما كانت تقام فيها جميع المناسبات العائلية الكبرى المبهجة منها والمحزنة. هكذا كان لمقام “مي لالا السعدية” بيننا، كبير الأثر في تربيتنا على القيم والمبادئ، إذ منها تشربنا قيم الصبر والحب والاحترام وتقدير كبار السن و قيم التزاور وصلة الرحم والتآزر وشد عضد بعضنا البعض. ظلت “مي لالا” في مرقدها صابرة محتسبة طيلة عشرين سنة بالتمام والكمال، تسعد لسعادتنا وتفرح لفرحنا وتحزن لحزننا، إلى أن حل الأجل المحتوم، فأصيبت بوعكة صحية خفيفة كانت كافية لتغييبها عن هذه الدنيا على إيقاع فيضان نهر لوكوس،في يوم ماطر من شتاءات القصر الكبير الباردة سنة 1976 لتترك فراغا كبيرا في المكان وتظل راسخة في القلوب والأدهان.