لم يكن أحد قبل شهرين من اليوم يعتقد أن هولندا ستكون على هذه الحالة من الحزن والبؤس والترقب، هولندا التي تنتظر الشمس طيلة شهور كئيبة ممطرة وباردة ها هي الشمس أخيرا دافئة وساطعة تحتضنها سماء زرقاء بعد أن رحلت فجأة تلك الغيوم الرمادية، الربيع في هولندا يمنح الطبيعة ألوانا فاتنة لزهرة التوليب ، من كان يتصور أن مهرجان الورود سيكون صامتا وجنائزيا على هذا النحو؟ حتى الشمس التي اعتادت أن يحتفل بها الهولنديون بالخروج إلى الحدائق والمنتزهات والشواطئ لم تجد من يحتفي بها وكأن مدن هولندا صارت لا تليق بالبشر ولا يسكنها إلا الأشباح، من يجرؤ على الخروج ليستنشق رحيق التوليب المشبع بفيروس الموت؟ خاطبني جاري فيليبو ” الموت أكثر خبثا هذه المرة، إنه يختبئ بمكر خلف كوريات الأكسجين، كن حذرا وأنت تستنشق الهواء!” وعلقت زوجته السيدة ساسكيا قائلة ” هذه الحالة من الحصار عرفتها هولندا قديما أيام الحرب العالمية الثانية حين كان هيتلر يقصف روتردام من السماء فكنا نحتمي بالمخابئ ، لكن كيف السبيل الاختباء الآن من الهواء الذي نستنشقه ؟” آه يا إلهي كيف تحول الأكسجين من مادة للحياة إلى غاز سام يحتضن فيروس الموت. أصعب ما في الأمر حين يتنكر “الموت” ويأتي على هيئة “الحياة” . لم يتجاوب الشعب الهولندي خلال الأيام الأولى لظهور فيروس كورونا بما فيه الكفاية وتجاهل تحذيرات الأطباء والمختصين ونكاية في كل الأخبار السيئة القادمة من الصين وإيطاليا خرج عدد كبير من الناس إلى المنتزهات والشواطئ يحتفلون بقدوم الربيع فحلت الكارثة، صار الناس مع مرور الأيام يتساقطون تباعا مثل أوراق الشجر زمن الخريف، الأعداد في تزايد مستمر فقط هذا اليوم ( 26/03/2020) أكثر من ألف شخص أصيب بالعدوى وسجلت ثمانون حالة وفاة بينما الأطباء يتوقعون الأسوأ عند بداية الشهر المقبل حيث ستعرف مستشفيات هولندا اكتظاظا غير مسبوق وهم يستعدون الآن لتجهيز 1600 سرير مجهز بكل الوسائل الحديثة من آلات التنفس ووسائل الانعاش للحالات الحرجة والخطيرة، بينما تحولت فنادق إلى مستشفيات مجهزة لاستقبال الحالات الأقل خطورة، التحدي الأكبر الذي تتحدث عنه الأجهزة الصحية والإعلامية هو هل بمقدور مستشفيات هولندا أن تستوعب في القادم من الأيام العدد الكبير لمرضى هذا الفيروس القاتل؟ هناك بعض الحالات الإنسانية الرائعة التي رافقت انتشار هذا الفيروس داخل المجتمع الهولندي فلقد أثار انتباهي أن مجموعة من المسنين المرضى يرفضون نقلهم إلى أقسام الانعاش المكتظة ويفضلون الموت حتى يتيحون فرصة الحياة لمن هم في عمر الشباب وقد لا يجدون سريرا شاغرا. حدثني الحاج عبد الله بكثير من الأسى ” أخشى الموت بسبب هذا الفيروس اللعين حينها سوف أدفن في هولندا لأن حركة الطيران متوقفة تماما نحو المغرب، أنا الذي ومنذ أكثر من أربعين سنة أواظب على تسديد سومة التأمين من أجل نقل الجثة للدفن في المغرب صار ذلك مستحيلا زمن كورونا!”