عن مؤسسة سليكي للطباعة والنشر صدرت للشاعرة والناقدة السينمائية والروائية أمينة الصيباري رواية من الحجم المتوسط تحت عنوان ليالي تماريت تقع في اثني عشر فصلا تتصدرها لوحة للفنان الصديق الراشدي في روايتها ليالي تماريت تظهر لأول وهلة للقارئ اللبيب أن طريقة الكتابة لدى الأستاذة أمينة الصيباري قد اعتمدت تقنية فنية غير مطروقة في الكتابة الروائية ، ولم يسبق استخدامها وهي تقنية الكولاج القصصي أو التناوب السردي الآني، المنبثق من لفافات أوراق المكسرات التي تتلهى بها البطلة غادة كل ليلة بعد أن تستلمها من الحارس الليلي الشاهد الوحيد على وحدتها وسمرها ،فتفتح أمامها تلك المخاريط ،أغلبها صفحات من كتب قديمة تعتبرها رسائل موجهة إليها ، تنضدها وتشرع في معالجتها بالقراءة والتعليق والتركيز والتأويل فتلهمها كل ليلة نوعا من الألفة والأنس في وحدتها يدفعها كل هذا — بعد تركيز مليّ — لكتابة ما يتعالق بخيالاتها وأفكارها حيث تطرح- _ انطلاقا من البنية النفسية الخاصة بها، كامرأة مثقفة مطلّقة _ أسئلة حارقة وعميقة، مناجية في وحدتها ذكرياتها. ذكرياتها الطالعة دائما سواء من مشط من دولاب أو مرآة أو فستان عطر أو قصيدة شعر ، مستشرفة مستقبلها، فتسافر في رحلة طويلة في مواجهة الذات والأرق في عوالم فسيحة دون ان تبرح مكانها الضيق في غرفتها الضيقة ، فتصبح هذه الأوراق والأجواء المشحونة بالتوتر والقلق والشاعرية أيضا ،عناصر مهمة في الرواية ترتكز على خط زمني يبدو معه التقطيع والتكسير غير مؤثر على سير الأحداث، في دوامة تتنامى وتتشكل داخلها الأحداث الصغرى، لتخلق أحداثا كبرى. ظلت تحافظ على هذه القفزات اللامرئية في كلّ منسجم إلى حدود مشارف النهاية حيث العودة إلى جوهر مأساتها و علة عنادها ألا وهي طلاقها من زوجها الذي كان قد استأصلها من ذاته وحياته بمشرط اللامبالاة الجارح، كما استأصل منها بألم فظيع وقسوة جارحة نادرة بذرته التي كانت ثمرة حب توغلت عميقا في أحشائها وقلبها ، وعشرة عمر جميلة سادت ثم بادت .غير أن نبل غادة، في نهاية المطاف، سيجعلها تتجاهل بوادر صداقة وعلاقة جديدة باتت تلوح في الأفق، وتتغاضى عن كل مأساتها مع حبيبها وزوجها العطار، وتؤثر الوقوف بجانبه في أول اختبار له مع الحياة بل مع الموت . لتقدم نفسها ، بجرأة أمام قاعة الانعاش ، وأمام الملأ بشجاعة وثبات، على أنها زوجته وكل أملها أن تعيد إليه بالتأكيد الأمل في الحياة،( أخذتُ يده وضعتها بين كفي) ص 184 وتلك هي النهاية التي تركت الكاتبة أبوابها مشرعة على التأويل وإعادة بناء الأحداث، والمساهمة في التشييد، وانخراط المتلقي في أداء الدور المنوط به في تشكيل وإعادة تشكيل وترتيب أحداث الرواية كما تدعو إليه النظريات النقدية الحديثة، التي تولي الأهمية الكبرى للمتلقي ومنها نظرية التلقي عند ياوس ، هذا علاوة على السؤال المشروع الذي ظل معلقا هل فعلا سيعمل هذا التقارب الفجائي غير المنتظر على عودة الحياة وعودة المصالحة مع الذات وعودة الروح إلى علاقة كانت تضج بالعنفوان . ( أحسست بضغط خفيف يبدو أنه يخرج من الغيبوبة .أحس به يستشعر وجودي.ضغطت بأناملي على يده وابتسمت . الم يكن العطار دوما مفتونا بلغة الأنامل …) ص .184وهنا يظهر مدى الحضور القوي للبعد النفس والجمالي الذي ظلت الرواية تراهن عليه كقاعدة رئيسية في بناء الأحداث، باعتبار البطلة شخصية اعتادت على العيش وحيدة في غرفة صغيرة لكن علاقاتها متشابكة سواء افتراضيا آو من خلال وظيفتها كصحفية مهتمة بما يقع بعيدا بعيدا جدا عن عالمها المكاني الضيق . اعتمدت الرواية أحداثا لا من منظور خطي تقليدي وتسلسل زمني عادي وطبيعي مألوف، بل تتداخل وتتقاطع ثم تتواشج في ضفيرة سردية وباقة أحداث متناغمة بأسلوب شاعري مكتظ بالعواطف، فيها أمل وفرح وشجن وألم .كل ذلك في خلطة من الشعر الساحر المدهش لأن الكاتبة شاعرة قبل كل سرد ، ولها عين ناقدة فنية لاقطة ،حيث ناقشت الأفكار التي وجدت نفسها محاصرة بالكثير منها كل ليلة سفر في الذات والذاكرة( الوحدة ليست غربة ، بل فرصة للسفر في الذات ) ص 99 ، تارة بجدية وصرامة جراح، وتارة بسخرية سوداء لاذعة ،وهي تكسر نمطية السرد بالحوارات التي عادة ما تنزع من السارد سلطة السرد لتوهم القارئ وتوحي له بواقعية الأحداث. وكأني بها في ،تقصّدها تكسير النمط السردي الكرونولوجي للأحداث – كما في الروايات الكلاسيكية- تريد الكاتبة أن تفصح عن نيتها في عدم الاعتراف بالبناء المعماري للرواية، لأن الهدم والتدمير والإنشاء، وإعادة الترميم، من شيم وفن المبدعين، أما البناء العادي والمألوف يبقى للبنائين والمهندسين . كما أني بها تتغيّى توصيل فكرة مفادها أن المجتمعات والذات الجماعية أضحت متشظية وتشظّى كل ما هو مألوف، فكانت الحاجة ماسة إلى ابتكار أسلوب مركب ومربك يعبر عن القلق الوجودي الدائم لا يرتهن للعادي وللأنماط المتعارف عليها ، فاستطاعت بهذا : التخلاف ” كما في ” البرشمان ” و”عقدة في عقدة” أن تشكل متواليات سردية شاعرية آسرة تحط كالفراشات خفافا سراعا في محطات غير مألوفة ، ما نفتأ نتلمظ لذة اللحظة حتى تحلق بك في عوالم أخرى أكثر فتنة وجمالا في تشبيك سلس لأحداث تتخلق من رحم اللحظة دون تكلف ، وبين الدخول والخروج تُطرَزُ أحداث رواية بدت من أول وهلة وأول ليلة أنها غير عادية وغير طبيعية، وأكيد ستوصلنا إلى محطات غير مسبوقة في كتابة الرواية ، حيث« تقاطع التقنيات في البناء والتكوين إلى الحجب والمحو والخدش والتجميع ..و الانتصار للتقاطيع وكتل وأشكال حركية « كما يصف الفنان التشكيلي الراشدي أعماله ومنها لوحته التي تتصدر الغلاف . ولأن السرود الجميلة الراسخة في القلب والوجدان جديرة بأن تقرأ عن قرب وبحب كبير ، فإني أدعو المهتمين لقراءة هذا العمل الإبداعي الجميل الذي آمل أن يكون إضافة نوعية للمنجز السردي المغربي.