غير أن تأثير «ألف ليلة وليلة» تجاوز فن الرسمDessin إلى فن التصويرPeinture، حيث إن «مصدر إلهام أكثر المصورين كان إسلاميا، كما أن عالمهم الخيالي، مستمد من ألف ليلة وليلة»14، ولقد كان تأثيرها شاملا للأجناس الأدبية، إذ تم توظيف حكاياتها وأساطيرها في الشعر والرواية والمسرح، كما امتد إلى فنون مختلفة: «إلى الرسوم المتحركة، والرسوم الصحفية «الموتيفات» وإلى الخزف والنحت والتصوير والحفر»15. تتميز المادة السردية في «ألف ليلة وليلة» بتداخل السرد والوصف، أو هي تستعمل ما يطلق عليه «السرد الوصفي» الذي يعتبر نتيجة لارتباط الوصف بالسرد، «وتتمثل تلك العلاقة في وجود أفعال حركية ووصفية في آن واحد (...) حيث نُجابِه مع كل فعل عملية وصفية دائبة في العملية السردية أو خاضعة لها»16. ويحتوي هذا السرد الوصفي في ألف ليلة وليلة على قيمة تشكيلية، تتجلى في بناء المشاهد، وخلق صورة مهيأة للتطبيق في فن التصوير، ومن ثمة يتصف هذا السرد الوصفي بالبعد التصويري Pictural. وتتحول صور المشاهد المسرودة والموصوفة إلى لوحات Tableaux، بتعبير جيرار جينيت الذي يقدم تعريفا للوحة داخل السرد بقوله: «إننا نطلق تسمية لوحات على بعض التوصيفات Descriptions الحية والمنتعشة بالانفعالات، والأفعال، والأحداث أو الظواهر المادية والمعنوية»17. يعتبر الوصف هنا مكونا فاعلا يربط ما بين السرد وفن التصوير. فهو يحدد هذا النمط من السرد، وهو ما يمكن تسميته: السرد الوصفي التصويري. وبفعل الوصف يستطيع السرد أن يخلق الصورة السردية التي تعمل على استحضار صورة مرئية. وتتميز هذه الصورة السردية بقابلية تصويرها، وتحويل مشهدها إلى لوحة، نظرا لما يقدمه هذا المشهد عبر اللغة من مؤشرات فنية، فالوصف في نهاية المطاف عبارة عن عملية «محاكاة لما هو مرئي»18. تختلط في حكايات «ألف ليلة وليلة» العناصر الطبيعية، بعناصر ما فوق الطبيعة، مما يسمح بإدراجها ضمن خانة الأدب العجائبي. حيت تتجاوز المألوف من الأوضاع الحكائية، وتستعمل الخارق والغريب فيما يخص الأفعال والشخصيات. إن شهرزاد تروي في الحكاية الأولى حكاية التاجر الذي يجوب البلدان بتجارته، وقد جلس ذات مرة طلبا للراحة، فأكل ثمرة ورمى بنواتها، فطلع له جني من الأرض يريد قتله، بعدما اتهمه بقتل ابنه بسبب تلك النواة. وبعد أن يلتقي التاجر بأشخاص آخرين، يظهر الجني مرة أخرى في هذا المشهد التصويري: «وبينما هم كذلك إذا بغبرة هاجت وزوبعة عظيمة قد أقبلت من وسط تلك البرية فانكشف الغبار وإذا بذلك الجني وبيده سيف مسلول وعيونه ترمي بالشرر»19. تحتوي هذه الحكاية على مجموعة من العناصر العجائبية أهمها: وجود الجني. الحديث الدائر بين الجني والإنسان. تحول بعض الشخوص إلى حيوانات (كلبتان – بغلة – غزالة). يتجلى البعد العجائبي في هذه العناصر من خلال الجمع بين مكونين متنافرين دلاليا في وحدة دلالية، إذ غالبا ما يكون أحد المكونين مألوفا والآخر غريبا، فالجني مثلا غريب، بينما اليد مألوفة باعتبارها عضوا ينتمي للجسد الإنساني، وقد مزج الوصف بينهما في هذه الوحدة العجائبية «جني بيده سيف مسلول» ، وفيها يتحقق مبدأ التحول أو الانمساخ La métamorphose. كما نكتشف داخل هذا المقطع نسقا من العلاقات السيميائية بين مكوناته، تلك العلاقات التي يحددها المربع السيميائي لغريماس، والتي نجد منها في هذا المقطع: العلاقة التناقضية (إنس – جن)، والعلاقة الاقتضائية (الجني – الشرر)، كما نجد بعض العناصر المساعدة التي تعمل على تأثيث المشهد، مثل «الزوبعة العظيمة» و»الغبار الهائج» فهي عناصر تهيئ ذهن القارئ لتوقع ظهور «شيء هائج وعظيم»، وهو «الجني» ، ومن ثمة تنسجم هذه العناصر فيما بينها لتشكيل الصورة العجائبية. لا تختلف هذه الصورة كثيرا عن موضوع اللوحة السوريالية، حيث يتم توليف عناصر متنافرة في أشكال تصويرية. فنرى في اللوحة مثلا، شجرة تخرج من جسد إنساني. أو نرى جسدا يتقاسمه إنسان وحيوان، وهلم جرا. ويتأسس الاتجاه السوريالي في التصوير على رؤى فنية وفكرية حديثة، لذلك فإن الوصف الذي يتخذ موضوعه من العجائبي يعتبر قاسما مشتركا بين السرد وفن التصوير. وفي هذا الأخير، نعثر مثلا في لوحات سالفادور دالي Salvador DALI على مخلوقات مصورة بنفس الشكل الذي يقدمه المقطع السردي السابق، فكلاهما يعتمد عنصر المبالغة، التي تصبح هنا قيمة فنية، وكلاهما يجعل «الشخص» العجيب في المستوى الأول من الصورة. إن العجائبي يخدم «السرد، ويحتفظ بالتوتر: حيث إن حضور العناصر العجائبية يتيح تنظيما للحبكة منضغطا بصورة خاصة»20. ولا يستطيع السرد أن يقوم بمهمة تقديم هذه الصورة إلا بتضافر مع الوصف، الذي يستعمل مادة اللغة متوسلا بوعي أو بدونه بتقنيات فن التصوير، ولذلك يطلق بعض الدارسين على هذا النوع من الوصف: «الوصف التصويري La description picturale ، حيث «نجد في كتاب «هنري جيمس والفنون البصرية» اقتراح فيولا وينر Viola WINNER يحدد مفهوم الوصف التصويري بقوله: إنه تقنية تسمح بوصف الشخصيات، الأمكنة، المشاهد، أو تفاصيل المشاهد، كما لو أنها لوحات أو موضوعات للوحات»21. وفي الحكاية السابقة نجد تركيز الوصف على التفاصيل (أعضاء الجني مثلا، كالعينين واليدين والرجلين...)، وهذا ما جعل «ألف ليلة وليلة» «تعد من أكثر القصص الوصفية التي تتكلم بلغة تجسيد الصورة في سرد أحداثها»22. بالإضافة إلى الملفوظات الوصفية في «ألف ليلة وليلة»، فإننا نجد أن اشتغال القيمة التشكيلية يتعلق بالملفوظ السردي كذلك، فيعتمد السرد: التركيب La composition ، والإيقاع Le rythme . وهما تقنيتان تحملان قيمة تصويرية، وتتحكمان في توزيع العناصر السردية (وهي هنا أفعال الشخصيات خاصة) على المناظر المراد وصفها. ومن ثمة «فالصور التشكيلية السردية في الليالي تأتي لنا من فوق اللاواقع، لتمارس علينا فوضى التصور، وتدفع التشويق إلى الاضطراب الحسي، فتخلق معها حالة من السوريالية الإيقاعية»23. كما تخضع الحكايات في ألف ليلة وليلة لسرد تضميني، يجعلها متلاحقة ومتداخلة، فالحكاية لا تنتهي إلا عند بداية الحكاية التي بعدها، ويستعمل السرد هنا أسلوب البتر La rupture الذي يجعل هذه المادة الحكائية قابلة للتشكيل، بحيث لا تنقطع أحداث حكاية ما إلاّ لتبدأ حكاية ثانية. ثم تنقطع هي الأخرى دون أن تنتهي. وتبدأ ثالثة، وهكذا. ثم يعود السرد إلى تلك الحكايات المبتورة فيتممها. وإذا أخذنا حكاية التاجر والعفريت مثلا، فإنها تقدم لنا مشهد التاجر رفقة ثلاثة عناصر، حيث يتكون كل عنصر من شخصية إنسانية وأخرى (أو أكثر من واحدة) حيوانية: صاحب الغزالة – صاحب البغلة – صاحب السلوقيتين، ثم تعمل الحكايات المتوالية على تشتيت هذه العناصر الثلاث بفعل توالد الحكايات وتشعبها، ليعاد تجميع المشهد الأول من جديد. هكذا يكون السرد قد استعمل تقنية التكرار من خلال إعادة المشاهد، وتقنية التماثل بواسطة الأحداث المتناظرة. وهي التقنيات المؤسِسة لعنصر الإيقاع في فن التصوير، لأن الفنان يتلاعب « بما في موضوعه من عناصر متشابهة، وأخرى مخالفة، فإنه يستطيع من هذا الطريق أن يخلع على عمله الفني إيقاعا خاصا يكسبه زمانية حية، وهنا يجيء التكرار، والترديد، والتناظر، والتماثل، فتكون جميعا بمثابة ظواهر فنية تساعد على إبراز «الإيقاع»»24. تتأكد محاولة الساردة في تجسيد الصور، ومحاولتها خلق صور مرسومة بواسطة اللغة، عندما نستحضر السياق الإبداعي الذي أنتج السرد في «ألف ليلة وليلة»، والذي يرد ذكره في بداية الكتاب. فلقد فكرت شهرزاد «الساردة» في تخليص المرأة من بطش شهريار، الذي اعتبرته مريضا، تستدعي حالته علاجا نفساني. لذلك نجد حضور عناصر: التكرار والتماثل والبتر والتوزيع وغيرها حيث «ينتظم الحكي كحركة طويلة من الذهاب والإياب، تارة تُبعِد الحاكية فيها الملكَ عن مصيبته وتُنسيه إياها: تبعده وتنسيه ذلك المشهد الذي لم يفلح في الإقلاع منه، وتارة تعيده إلى المشهد نفسه مجازفة بحياتها»25. فهذا السياق الذي يتلخص في قصدية العلاج النفسي بواسطة السرد، واعتبار الحكاية بعناصرها العجيبة إعادة إنتاج للحلم، هما ما يمنح السرد طابعا سورياليا. حيث السوريالية تؤمن كما يقول أحد أبرز زعمائها: أندريه بروتون(1896-1966) André BRETON ، في البيان السوريالي الأول الصادر سنة 1924، «بقدرة الحلم الطاغية، بتلاعب الفكر المجرد من كل غرض. إنها تنزع إلى نسف الميكانيكيات النفسية الأخرى، وتحل مكانها في حل مشكلات الحياة الرئيسية»26. الهوامش: 14- د. محمود شاهين، ألف ليلة وليلة وأثرها في التشكيل المعاصر، مرجع مذكور. 15- المرجع السابق. 16- عبد الطيف محفوظ، وظيفة الوصف في الرواية، دار اليسر للنشر والتوزيع، الدارالبيضاء، الطبعة الأولى، 1989 ، ص: 30. -17Gérard GENETTE, figures 4, édition du seuil, paris, 1999, p : 61. 18- عبد الطيف محفوظ، وظيفة الوصف في الرواية، مرجع مذكور، ص: 8. 19- ألف ليلة وليلة، مرجع مذكور، المجلد 1 ، ص: 8. 20- تزفتان تودوروف، مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة الصديق بوعلام، دار الكلام، الرباط، الطبعة الأولى 1993، ص: 122. 21- Liliane LOUVEL, La description « picturale », poétique, édition du seuil, paris, N° : 112, 1997, p : 478. 22- د. عبد السلام شعيرة، قراءة تشكيلية جديدة لألف ليلة وليلة، (رسالة دكتوراه مقدمة بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة) في: الهامش رقم 6 من كتاب: د. محمود شاهين، ألف ليلة وليلة وأثرها في التشكيل المعاصر، مرجع مذكور. ص: 13. 23- د. محمود شاهين، ألف ليلة وليلة وأثرها في التشكيل المعاصر، مرجع مذكور، ص: 12. 24- د. زكريا إبراهيم، مشكلة الفن، مكتبة مصر، (بدزن تاريخ)، ص: 31. 25- جلبير غرانغيوم، لغة العلاج والنسيان، دراسات في ألف ليلة وليلة و"قضية الآيات الشيطانية" ترجمة محمد أسليم، مطبعة سندي، مكناس، الطبعة الأولى، 1996، ص: 48. 26- إدوارد لوسي سميث، ما بعد الحداثة، الحركات الفنية منذ عام 1945، ترجمة: فخري خليل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1995، ص: 20.