إلى الأرواح الطاهرة لزملائي المحامين الذين قضووا. و إلى الباقين الماسكين بالجمر يوميا و الحاملين لشموع تنير الظلام . ” قال رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري و احلل عقدة من لساني ،يفقهوا أمري ،و اجعل لي وزيرا من أهلي ،هارون أخي ، و اشدد به أزري ” صدق الله العظيم. كان أول لقاء لي و بشكل مباشر مع المحامي ،يوم انتصب ثلة من المحامين لمؤازرتي بمعية رفاقي المناضلين السياسيين و النقابيين على إثر الإضرابات التي دعت إليها المركزية النقابية ” الكونفدرالية الديمقراطية للشغل” ، في أبريل : 1979. و كنت قد ازددت اقترابا منهم و معرفة بمهنتهم في مناسبات عدة ، كانت آخرها محاكمتي و من معي ،في مدينة الرباط ، أثناء أحداث يناير 1984 و التي نعت فيها حاكم البلاد سكان الشمال ب ” الأوباش”. و لا يفوتني أن أسجل ،أنني استمتعت قبل ذلك بمرافعات خالدة للمحامين الذين كانوا يؤازرون مناضلين على إثر الإضراب العام ليوم : 20 يونيو 1981 ، الذي دعت إليه نفس النقابة ضدا على سياسات الدولة التي لم تكن تستجيب لطموحات الشعب المغربي. و كان قد أطلق الرصاص من طرف القوات النظامية على كثير من النشطاء و الجماهير ، حيث سقط كثير من القتلى ، و كان وزير الداخلية – الغير المأسوف عليه – إدريس البصري ،قد سماهم بشهداء ” كوميرة”. في تلك الأثناء ،اهتممت بمهنة المحاماة : تاريخها ، مرافعات بعض كبار المحامين التي ظلت خالدة و على بعض آثارها التي بصمت تاريخ الإنسانية و أخيرا على الدور الإستثنائي الذي لعبه المحامون من أجل تحرير الشعوب و الذوذ عن الحق . و عاينت سموهم عن الدنايا، و إيمانهم بقضايا أوطانهم ، و هكذا اطلعت على صفحات من نبوغ المحامين في كل أركان العالم ، خاصة في : مصر ،فرنسا، إنجلترا و الولاياتالمتحدةالأمريكية. و انتسبت لاحقا – في سياق خاص – و لأسباب متعدد،لهذه المهنة ، و اقتنعت من خلال ممارستي لها ، أن المحامي يصبح شامخا و سامقا و متوهجا عند دفاعه عن المظلومين و المستضعفين و عند امتلاكه و استقوائه بالحق. و فهمت تبعا لذلك ،سر اتجاه قادة الحركات السياسية في العالم إلى امتهانها : غاندي ،أبراهام لنكولن، بيل كلينتون ،جورج واشنطن ،باراك أوباما ، ساركوزي … و من المغرب : عبد الرحيم بوعبيد امحمد بوستة ، عبد الرحمان اليوسفي،عمر بنجلون ،المعطي بوعبيد…الخ. و يجذر التذكير ، أن ” المحامي ” كان قد ظهر في العصور الوسطى في المحاكم الأوروبية بسبب الفارق بين القضاة و المتقاضين على المستوى الثقافي ،و كان في الغالب ينتسب إلى الطبقة البرجوازية . و ظل يلعب دورا أساسيا في تحقيق العدالة ،لكونه يعتبر الوجه الثاني لها ،فضلا عن كونه يسعى لإظهارها،حتى قيل :” إن العدالة نتيجة حوار بين قاض مستقل و نزيه و بين محام حر و أمين”، لأن الحقيقة لا تدافع عن نفسها كما هو معلوم ،لذلك كانت بلاغة التعبير و قوة الحجة لازمتين لإظهار الحق. إن كل من يلتحق بمهنة المحاماة ،عليه أن يتصف بأنبل الصفات و يتخلق بالأخلاق العظيمة ،و يكون فطنا،مبدعا،و نجيبا . و لقد أكد كثير من جمهور الفقهاء ،أنه إذا لم تتوفر لدى المحامي ملكة الإبداع و الابتكار فلاداعي لامتهانها . إن المحامي الذي يحمل أشرف الرسالات و يجاهد من أجل إحقاق الحق ،ليس هو من لديه شهادة عليا في القانون ،أو بطاقة العضوية في نقابة للمحامين ، لكن هو ذاك الشخص الذي يحمل على كاهله أرقى و أسمى صرح قائم على أساس العلم و المعرفة و الخلق و احترام الآخرين. و تفعيلا لدوره في المجتمع لزاما عليه المشاركة في الأنشطة المتنوعة : الخيرية، الاجتماعية و الثقافية و يساهم في المناقشات المختلفة و إبداء الآراء بما يخدم البلاد و العباد ، لأن المحامي يعتبر قائدا فعليا للمجتمع ،حيث يسير به نحو المجد و العلا. و من تم فعلى المحامي امتلاك بعض الصفات منها : الموهبة، اللطف و الوداعة ، أن يكون منظما و مرتبا ، صبورا و خدوما ، ذو قدرة على الإقناع و التحليل، ذو ذكاء متميز، القدرة على التركيز، امتلاك البصيرة ، متمكن من اللغة، ذو أخلاق رفيعة ،و أن يكون معدا أكاديميا و ثقافيا. إن الإنسانية لازالت تحتفظ بالمرافعات الرائعة لكبار المحامين في قضايا كبرى. كذلك فإن ذاكرة وطننا تسترجع بكثير من الفخر و الاعتزاز دفاع جهابدة المحامين عن حقوق الإنسان و نضالهم من أجل رفعة الوطن . فهل لازالت تلك البذلة السوداء رمزا لحزن المحامين على وأد الحرية و العدل ؟ أم أنها أصبحت رمزا لحزن أصحابها على حالها و مآلها ؟ أجل ،إن للمهنة حماتها ، و ستظل دائما رافعة للحق و بوصلة الشعوب نحو الرفاه و التقدم ،بالرغم مما قد يعتريها من ” هزات” بين الفينة و االأخرى كباقي المهن.