بداية نترك مبدعنا مصطفى الجباري يقدم لنا نفسه عبر هذه الأسطر: “قارئ مغربي مشغول بالبحث والقراءة، تجذبه هواتف الحرف نحو جميع تيارات المعرفة، ويرفض الهدنة فوق مرفأ من مرافئ المعرفة. يعشق الإبحار والنبش في ذاكرة التاريخ والمجتمع، إلا أن فن الرواية والسرد يمارس علي سلطة غالبة تكرهني على تكميم صرخة الحرف خلف فضاءات السرد الروائي. أحيانا تتمرد المرافئ الأخرى، فتشغب على مألوفات البناء الروائي، مما قد يدفع بالناقد المتخصص إلى مأزق مفاهيمي، تصنيفي..” أما إذا سألت عن الهوية وشواهد التحصيل المدرسي فإن المحاور من مواليد القصر الكبير 1963 درس بفاس سنتين شعبة الحقوق، سرعان ما دفعته إكراهات خاصة إلى التوقف عن الدراسة والاقتصار على التهام جنون الحرف”. ورحلة مصطفى الجباري مع الكتابة ذات نكهة خاصة تغري بالتتبع هي عناء ودهشة وإباء: “الكتابة عندي شكل من أشكال العشق الصوفي لا يحلو لها التزحلق إلا فوق جليد الإباء والتمنع، إنها ترفض الدخول إلى بورصة الإبداع بوسام التملق المتزلف، الأحرف التي لا تمارس أصالة تمنعها تنتج كلمات قابلة للتطويع، ويسهل الزج بها إلى عالم المساحيق والأصباغ”.(1) ومن الغريب أنه في مطلع حياته كان يستشعر نفورا إزاء الحرف، بيد أن هذا النفور سرعان ما تحول إلى عشق لينقلب صاحب الطقوس والشيخ والجبل، والوجه الآخر لمدينة البحر، إلى آلة محكوم عليها بالتهام الكتب والأخذ بناصية الحروف، يحرضه جنون المعرفة على الغوص والبحث والتنقيب. استهواه الشعر بداية الأمر، وكتب في هذه المرحلة أشعارا لم ينشر منها شيئا، يتحول بعدها إلى قراءة الفلسفة والأبحاث السيكولوجية، لكن (حصان المعرفة) عنده ركض في اتجاه الرواية، فلماذا هذا الانجذاب نحو الرواية؟ وما هي أهم الأعمال الروائية التي تأثر بها؟. “وهنا أحب أن أسجل ملاحظة، وهي أنني لم أبدأ بالرواية العربية، وإنما كان إبحاري مع هذا الفن من خلال الروايات العالمية، فقرأت الرواية الفرنسية بنفس متواصل، وكذلك الرواية الأنجليزية، اكتشفت الرواية الروسية، وهنا حصلت الطفرة، حيث وجد ذلك الحصان ضالته في متون الرواية الروسية، وأسئلتها الوجودية الكبيرة، المغموسة في ذلك النفاذ السيكولوجي المدهش، وأخص بالذكر هنا عملاق الرواية السيكولوجية دستويفسكي، ومن خلال هذا الرجل اكتشفت سرا دفعني دفعا إلى كتابة الرواية، اكتشفت من خلال أعمال ديستويفسكي أن الرواية فضاء معرفي لا يعرف الحدود، أروقته مضيافة ينفتح صدرها لاستقبال كل أصناف المعرفة والفكر ومن ثم اقتنعت بأن طبيعتي المغرمة بقراءة كل شيء لا يمكنها أن تفرغ جعبة مخيالها سوى في جنس الرواية والقصة، لأنه -كما أشرت- جنس يرضي الفيلسوف والمؤرخ، والسيكولوجي، والباحث في الأديان، وأنا المحكوم عليه بقراءة كل هذه المعارف لدرجة الهوس، لا يمكنني أن أرضي ركض ذلك الحصان إن لم أفرغ منتوج تجواله في فضاء هذا الجنس المضياف، الواسع الصدر، المتصالح مع كل المعارف والفنون”.(2) ورحلته في عالم الرواية والقصة أسفرت عن الأعمال الآتية: – الشيخ والجبل (رواية). – الوجه الآخر لمدينة البحر (رواية). – التاريخ يمزح (رواية). – مزرعة النفايات (مجموعة قصصية). – أقواس حزينة (رواية). – رماد الخيمة العشائرية (رواية). – خرائط الليل (رواية في ثلاثة أجزاء). – قناديل السماء (رواية). – صراخ بلا ضجيج (رواية). كما صدر له كتاب موسوم ب: الدين والفلسفة العدمية، تأملات في الفن والأخلاق والحضارة. هي أعمال جديرة بالقراءة والتأمل، لما تطرحه من قضايا اجتماعية وإشكالات تمس حياة الإنسان ومصيره. وإنه لمن الغبن حقا أن تظل مثل هذه الأعمال الروائية مغمورة لا يكاد يطلع عليها إلا عدد قليل من القراء. كما أن توزيعها لا يتجاوز محيط مدينة القصر وطنجة وبعض المدن القليلة الأخرى. وهنا تطرح من جديد قضية النقد عندنا ومدى مواكبته للأعمال الإبداعية. مثل هذه الأمور أرقت، ومازالت تؤرق مصطفى الجباري، وهو ما فتئ يعبر عنها بأشكال مختلفة تارة بالتصريح وأخرى بالتلميح… وبالرغم من “مسوح الحصار” فإن بعض الأقلام تمكنت من اختراقه في محاولة منها تقديم مبدع غفل عنه النقاد، ولو أنصفوا، لتصدرت أعماله واجهات المكتبات، ففي غياب دراسات نقدية مواكبة تسعفنا تلك الحوارات الهامة التي خص بها المبدع ثلة من الصحفيين والإعلاميين ك “عبد الرحيم اليوسفي- إدريس الكنبوري- عبد الله بديع- عبد السلام الحاضي” والتي ضمنها مجموعته القصصية “مزرعة النفايات”. من خلالها يطلع القارئ المهتم على أشياء تخص آليات عمل المبدع وأنساق تفكيره. تكشف تلك الحوارات عن شخصيته في بعدها الإنساني والفكري، عمق ثقافته، صدقه، وانفتاحه على شتى المذاهب والتوجهات، عزوفه عن تضخيم الذات وابتعاده عن تلك الأحكام المطلقة الجاهزة… لا أدري إن كان الأستاذ مصطفى الجباري يحبذ أن نضعه مع زمرة أصحاب الأدب الإسلامي أم لا، علما أنه انفتح على شتى التيارات الفكرية والأدبية والنقدية، وربما كان ضد هذه التصنيفات. سئل ذات مرة عن المدرسة أو الاتجاه الذي يمكن أن يصنف فيه، فجاء رده: “مدرستي الوخز السيكولوجي، وتخليق القلق كمنهج في التلقي. أما فيما يتعلق بالتصنيف المدرسي في أروقة الفن الروائي، فإنني أحاول -ولما أصل بعد- أن أشتغل بأدوات كل المدارس الروائية، أنفتح عليها انفتاحا وظيفيا يوافق أزمة العصر في القفز على الواقع..، لذلك أعتبر مسألة التصنيف في أي مدرسة يحط في رحابها شغب قلمي الإبداعي، فإنها مسألة لم يات أوانها بعد، لأن بوصلة الملاح لم تكتشف هدنة الرياح.(3) وأقواس حزينة هو عنوان إحدى روايات مصطفى الجباري، ومن الصفحات الأولى ندرك أننا أمام رواية اتخذت من مدينة القصر الكبير فضاء مركزيا لجريان أحداثها. قيد رواية (الوجه الآخر لمدينة البحر) والتي تجري أحداثها بمدينة طنجة يقول إنه كثيرا ما سئل لماذا لم تكتب عن مدينة القصر الكبير وأنت أحد أبنائها؟ فكان يكتفي بالصمت والابتسام. “ولعل فكرة الكتابة عن مدينته راودته أكثر من مرة، بيد أن أوانها لم يكن قد حان بعد. ثم إن الرواية عنده لا تكتب لمجرد التسلية وتزجية الوقت..، فإنها أيضا تختزن قضايا حقبة من الحقب، إذا ما أراد المؤرخ يوما أن يدرس مشاكل تلك الحقبة، فإن قرص ذلك البناء الروائي إذا أحسنت الضغط على مفاتيحه سوف تظفر بحقائق غضة طرية، محصنة بمناعة ضد الزيف كما هو شأن بعض وثائق التأريخ”. (*) أقلام وأعلام من القصر الكبير في العصر الحديث، الجزء الثالث، محمد العربي العسري، 2015، من ص. 290 إلى ص. 296، (بتصرف). هوامش: 1- مزرعة النفايات، ص 33. 2- في حوار أجراه الأستاذ والإعلامي: عبد الله بديع مع مصطفى الجباري. 3- من مجموعته القصصية: مزرعة النفايات.