أصباح اكتوبر الباردة، تقتحم غرفتي و تبعث بخيوط الضوء من تحت رواق النافذة المطلة على ساحة المرس العتيقة. ليست عادتي أن أستيقظ قبل جرس السابعة، ربما انشغالي الزائد، بهذا اليوم دفعني لمسابقة صوت المنبه فاستيقظت قبله. أزحت عني الغطاء، و ألقيت به أسفل السرير، ألصقت هاتفي بالشاحن لأتفاجئ بخمسة اتصلات واردة من رقم أجهل صاحبه، أغلقته و قصدت المرحاض. بعدما انتهيت من ارتداء ملابسي تحسست علبة السجائر فلم اجد لها أثر. فكرت : ربما وقعت مني أمس بمرقص “غولد نايت” Gold night” القابع في درب الزلق، أو ربما انتشلته مني فتاة البورديل عند آخر عناق. كهل في أسبوع الإستعداد لليلة زفافه، يسكر و يضاجع فتيات/بائعات البورديل، لم أستطع أن أتغلب على رغبتي تجاه هذه النشوات؛ التي سرعان ما أنقاد إلى تجربتها فيخيل لي في كل مرة أنني أفعلها للمرة الأولى. ربما لأنني عشت شبابا يبعد عن شباب أقراني، منغمسا كنت حد الاكتفاء بروايات “شكري” و “نجيب محفوظ” و “برادة”، قابعا تجدني مع دروس النحو و البلاغة و الشعر، قليلا ما أخالط الناس، نادرا ما أنزاح للأنوثة، حاجز غريب كان يحجب رؤيتي – شهوتي نحوهن . جلست في مقهى “الروبيو” أتفرس بعيناي الناعستين ساحة المرس الفارغة إلا من متشردين : ينام الأول على رصيف مكتبة “التوكل” و الثاني ملقى في مدخل “الزاوية القنطرية”، غفت عيني ليوقظني هدير شاحنة الأزبال. جائني كمال؛ النادل الذي ترك أسرته بالعوامرة ليستقر في غرفة “الروبيو” فوق المقهى. ناولني سيجارة رخيصة و طلبت منه إحضار كوب قهوة فرد : كم قطعة سكر ؟ فأجبت مرتخيا : أنت تعلم يا كمال، ثلاث قطع. مسح بخرقته البالية الطاولة الخشبية المربعة الوجه المطلية بسنين من العمل الشاق و بقايا الشاي الأخضر، ثم انصرف. شريط صور يمر أمام عيناي الناعستان؛ الطفل الصغير يلعب و يتمرغ في ساحة المرس، الضجيج، الجلبة، و حركة غير معتادة، مشهد لليلة الزفاف و صخب مزعج… أغمضت عيني مستسلما للنعاس، فأيقظني صوت كمال الجهوري يصيح : سبحان الله ! أكملت إعداد القهوة الداكنة في السواد و رشفت منها قليلا و أعدتها، أشعلت سيجارة. الساحة أمامي تعوم في ضباب كثيف، لا تكاد تميز المار من الطريق المؤدي إلى “الهري” و لا تستطيع رؤية القادم من هبطة ” الجامع السعيد” و حيدا أجلس إلا من الوحدة. أذكر و انا شاب، سطرت عدة أحلام و عزمت على تحقيقها قبل الثلاثين، هذا أنا أحبو فوق الثلاثين و لا حلم لي سوى حفل زفاف الليلة، و انا شاب كنت مفعما بتباشير الصباح و أمله ليوقفني جدار سميك خشن مكتوب عليه بخط أحمر مضغوط “الواقع”،انتهى الربيع فاستعد لصيف جاف قاحل. صوت “بوجميع” الصادر من مذياع المقهى يكاد يملئ الساحة كلها يصدح عاليا : مهمومة وا خيي مهمومة هاد الدنيا مهمومة فيها لنفوس ولات مضيومة ولى بنادم عباد اللومة… الشمس تبعث بخيوطها الأولى معلنة حلول الثامنة صباحا، تواطؤ ضمني يربط بناية النادي الاسباني و خيوط الشمس الصباحية، الأولى لا تسمح لها بالبروز إلا بعد الثامنة و التانية تقبل الصفقة فتنكب إلى تدفئة صغار أرانب الأخت “أورا” “Hermana Awra” وراء البناية الشاهقة. يمر السي اليزيد كعادته يتأبط كيسا فارغا يقصد مخبزة الأندلس – التي داع صيتها كل بقاع القصر الكبير – ليجلب الخبز الباريسي الساخن، تابعت تحركه إلى أن اختفى في العطفة المقابلة “للزاوية القنطرية” . أرى من بعيد شبح رجل أتي من هبطة “الجامع السعيد”، عند اقترابه تعرفته إنه “السيمو” الملقب “بالحيبور” بسترته و قبعته الرياضيتان اللتان لا تفارقانه صيفا وشتاء. يمشي منكس الرأس سريع الخطى ينثر دخان أنفاسه، استقر عند الطاولة المحايدة التي أجلس عندها، سلم و لم يرفع رأسه، رددت سلامه و اكملت سيجارتي ،ناديت كمال فبعث أمامي، همست له : هناك بضاعة جديدة ؟ فابتسم و طأطأ رأسه بالإجاب و انصرف ثم عاد في الحال و ناولني قطعة “حشيش” بنية داكنة و أردف : عشرون درهما ؟ دسست يدي في جيبي أخرجت حافظة النقود و ناولته ورقة من صنف عشرين درهما، أخدها و قال : و القهوة ؟ من بعد يا كمال، من بعد انصرف و استسلمت للنعاس تانيا ليوقضني هدير سيارة، أفتح عيناي على سيارة كبيرة بيضاء إلا من خطين متوازيين يقسمانها قسمان، خط أحمر و آخر أخضر، إنها سيارة الشرطة. تسمرت مكاني و قلبي يسابق الثواني في الخفقان، نزل اثنان و ظل السائق مكانه، دخلا الإثنان إلى المقهى، فكرت في الهرب، لكن السائق ؟ خرجا الإثنان يقصدان السيارة فارتحت لوهلة. توقف الأول و استدار برأسه ثم بجسده و اقترب نحوي : أنت ما إسمك ؟ أين بطاقتك الوطنية ؟ ماذا تفعل هنا في هاذ النبوري ؟ توالت أسئلته بدون انقطاع كسيل دماء حاد و كقطرات مطر متسارع، لم يعطني فرصة الجواب، نطقت مرتجفا : اسمي ابراهيم… أخرجت حافظة الأوراق الصغيرة فلم اجد للبطاقة الوطنية أثر، إنضاف الثاني و طوقاني من كل الجهات، كمال و “الحيبور” يراقبان المشهد… يصيح الثاني : قف ! وقفت بدأ يفتشني من شعيرات رأسي إلى أخمص قدمي، ليخرج من الجيب الأمامي الضيق قطعة الحشيش، ابتسم الأول في خبث و صاح الثاني : من أين لك هذا ؟! و صفعني الأول و صاح : تكلم يا ابن الكلاب ليست لي، اقسم لك ! لمن تكون إذن ؟ صفعني مجددا، لكن هذه الصفعة أرجعتني سنين وراء و تذكرت صفعة والدي حينما وجد بجيبي رسالة حب من الخوالي و غبت عن مشهد المقهى و الشرطيان، لأستيقظ في الكراسي الخلفية من السيارة و حيد إلا من وحدتي، أرنو من الشباك الزجاجي، “السي اليزيد” عائد بغنيمته من الخبز الباريسي، و الأخت أورا تتسلم حصتها الصباحية من الحليب، و كمال ينظف الطاولة التي كنت أشغلها، تحركت السيارة نحو الطريق المؤدي إلى ضريح “مولاي علي بوغالب” مارة من “الهري” ثم سيدي “بو رمانة”. مرة أخرة غلبني النعاس فأغمضت عيني و استسلمت.