1- حوار مع الذات المشكّلة “أنا أبحث دائماً عن المعاني الإنسانية فيما أقدمه. لا تستغربوا إن ضاعت منا هذه المعاني فنحن ما زلنا نبحث عن الإنسان.” محمد الشاوي وأنا أخط هذه السطور المتواضعة لتأسيس قراءة خاصة بي عن تجربة الفنان محمد الشاوي التشكيلية، المغموسة إلى ما فوق التشبع بالأفكار والرؤى الفلسفية، حاولت جادا فهم مقصديته التي أجدها تتماهى وكتابة مفتوحة، متعددة المعنى، ينمحي فيها قصدا، أي إيهام بالواقع الحسي، رغم إمكانية تلمس حسية الأعمال وحفاظها على تشيئها وتزامن حضورها مع أشياء من الواقع. فرغم ذلك، تبقى “الحاجة إلى الفهم أينما تعذر الفهم المباشر.” ولكي أتمكن من الفهم لابد من حصول اتفاق بيني وبين المؤلف. “ففهم أي نص يحتاج الى أورغانون لغوي” يساعد على بلورة وإعادة تكوين الفعل الإبداعي. فالفهم هو إعادة إنتاج ما سبق انطلاقا من سيرة المؤلف وحياته الفكرية وما ينوي النص البوح به. يحاول الفنان منحنا بعض المفاتيح ترشدنا كي نفهم ونلج ببساطة وشفافية عالمه الإبداعي، مجيبا عن تساؤلات واستفسارات يراها متباينة: “ماذا تريد أن تقول اللوحات التي أرسمها؟ وما السبيل إلى هذا النوع من الأفكار والتأملات التي أطرحها في أعمالي التشكيلية بصيغة عامة وتحديدا رؤيتي للعالم؟ هل لهذه الأعمال خيط ناظم يحتويها ويجمعها في خط متصل يكون فيه السابق يؤسس للاحق، أم إنها أعمال جوفاء تفتقر إلى رؤية ومنهج يحكمها؟” يبقى التساؤل قائما: هل من الضرورة أن يتحدث الفنان عن عمله، مستعملا لغة فوق اللغة، مع العلم أن الاعتقاد بأن نوايا، المبدع لا تعد ضرورة ملحة في تحديد معنى العمل، لكن يبقى ما يلف حول نشأة العمل la genèse de l' œuvre من المخفيات التي لا يدري كنهها سوى المبدع نفسه، دون غيره. أن تكتب عن عملك يبدو نوعا ما طريقة لإعادة إدخال شيئا من الرصانة، لتبرز قيمة العناصر المخفية، أو تلك التي امتص عصارتها العمل الفني. إنه ليس من السهل تناول أعمال الفنان محمد الشاوي، قراءة وفهما وتأويلا. فأعماله تستدعي العقل، أداة الفهم، أكثر مما تترك المتلقي يقف للحظة استلذاذ جمالي، لاستكناه جوانب تجربته التشكيلية واستجلاء مقاصده الجمالية، التي تعد في نظرنا أسس ما تنتظم عليه النصوص التشكيلية، لوحات وتركيبات، يسميها الفنان منحوتات، ناظمها الأساس، كما حدده الفنان نفسه، “خطوط وتموجات ومنحنيات وأشباه دوائر وبقايا أجساد وأنصاف أشكال هندسية ورياضية لا متناهية، غايتها خلق تيهان بلغة فلسفية داخل فضاء تشكيلي يسائلك ويستفزك للتفكير وإعادة التفكير فيما هو مفكر فيه، غير مفكر فيه impensée هذا الأخير الذي يجعلك تطرح قضايا وتساؤلات تعيد للتفكير كينونته ووحدته للتعبير بواسطة لغة خاصة أو لُّوَيَغة. une langue mineur من داخل اللغة التشكيلية العامة “. إن مشروع محمد الشاوي الفني يمتح من خبرتي الفلسفة والفن أصالته فيجعل منهما موضوعات خصبة تنطوي على رسالة أو بوح يتستر وراء اللون والشكل، يقتضي الفهم والتفسير، إنها تسعى إلى استعادة ذلك الطابع الحميمي الذي تتميز به خبرة الفن، لا النظر إليه كمجرد موضوع يثير متعة جمالية من خلال انسجام الألوان والأشكال. فخبرة العمل الفني ليست خبرة جمالية خالصة وإنما هي تجربة للفهم. (غادمير) فتجربة الفنان محمد الشاوي لا يمكن اختزالها إلى مجموعة تكوينات شكلية، تقف عند حد الوعي الجمالي، أوتناولها دون مساءلة عمقها الفلسفي الذي يمتص ذات الفنان ليجعل منها بؤرة اهتماماته التخييلية وأساسياته الرمزية، فهي “جموع خارجة عن كل حالات القيس”. (ميغري) فالتركيز على الشكل الجمالي وحده حال بيننا وبين فهم حقيقة الفن ودوره التاريخي في بلورة كينونة الإنسان. وحتى نتوصل إلى تفادي استبعاد المعرفة والحقيقة اللتان بفضلهما يتحقق احتواء ما ينكتب فيه نسق العمل الفني الجمالي/الرمزي، نحن ملزمون أن ننطلق من تجربتي الوعي الجمالي والوعي التاريخي، “تجربتي المسافة الاغترابية والاستيلابية اللتين نصادفهما في ميدان المرجعيات الهامة”(غادامير). إن الوعي الجمالي وحده كما يرى غادامير، عكس ما أثبته كلايف بل في نظرية “الشكل الدال”، عاجز عن الإحاطة بالطبيعة الحقيقية للفن. فقد نفوت على أنفسنا إدراك حقيقة العمل الفني إذا اكتفينا بالتقييم الجمالي الخالص. فهذا النوع من السلوك يضع العمل الفني في دائرة استقلال افتراضية، منفصلة عن الحقيقة، بعيدة عن الظروف التي تجعله في متناول أفهامنا. فبنية العمل الفني غير موجودة في ذاتها كما أكد ذلك غادمير وغيره من الفلاسفة، نيلسون غودمان وجورج ديكي وأرتور دانتو، (وسأوضح ذلك في الجزء الثاني من المقال). إن بنية العمل غير قابلة للتحقق إلا في أدائها، أي عندما تعرض نفسها ككل ذي معنى، وعبر هذا التوسط فقط تكتسب وجودها الحقيقي، وهذا ما عبر عنه نيلسون غودمان بمفهومي التنفيذ Implémentation والتفعيل Activation. في تأويله لعمله التركيبي (دوغمائية الخشب)، انزاح محمد الشاوي عن مادية العمل الفني التي هي طرف من مجازات كينونته الإستيتية، ليبين أن “حقيقة العمل تكشف جهل المثقف العربي وجمود عقله الخشبي اللذان أمسياه دوغمائيا يقبل كل شيء وبدون أدنى وعي أو تفكير(…)، (وتوقيا) يفتقر إلى أبسط آليات المنطق والإستدلال السليم”. في هذا التأويل الهرمنيوطيقي تحدث الفنان عن الحقيقة وعقب عليها بالمعرفة: ” كما تحضر في النحت فكرة الطائر-الرسول الذي ينقل المعرفة ويسعى إلى إيصالها لجميع الناس بغية تعميم نور الوعي والثقافة الإنسانية من علوم وفنون جميلة وآداب وفلسفة وسائر المعارف التي من شأنها الارتقاء بإنسانية الإنسان…”، ولولا مثل هذا التفسير الذي يضيق المسافة التماثلية بين المرئي واللامرئي ما توصل المتلقي إلى استكناه عمق ما يرمز إليه العمل المركب. ولبات ينتقد ويقيم العمل من جانب معتقدات تتسيد خلالها التفاسير والأحكام الشكلانية المنبنية أصلا على المنهجية التقنية والعلمية، مما يجعل جوهر وماهية العمل الفني ينفلتان من بين يديه، ف “كل محاولة لتفسير الشيء أو تحليله عن طريق نظريات علمية، تجعله يفر منا، وتجعلنا نبتعد عن طبيعته، لأن الشيء يظهر بوصفه محتجبا، وفي هذا التحجب تظهر ماهيته. (سعيد توفيق) إن المعرفة والحقيقة اللتان تحتجبان وراء الشكل واللون في أعمال محمد الشاوي، تتطلبان من المتلقي تقويض ما يمنع من ملامستهما. إن أي محاولة لكشف الحجاب عن حقيقة الفن التي تتوارى وراء تركيبات الشكل/اللون تقتضي تعدي أنساق الوعي الجمالي الذي غالبا ما “ينظر الى الأعمال الفنية كموضوعات جمالية يجردها تماما من مضمونها الأخلاقي والمعرفي”. ولا يخفى أن تجاوز التجريد المساوق ل “الشكل الدال” سيمكن القارئ من مساءلة العمل الفني كطرف فاعل ومشارك في خبرة الحقيقة. تساؤل إشكالي ذي مقصدية فلسفية يطرحه الفنان محمد الشاوي على نفسه، في حوار مع ذاته، كما يطرحه على كل مستقبل لأعماله: “هل لهذه الأعمال خيط ناظم يحتويها ويجمعها في خط متصل يكون فيه السابق يؤسس للاحق، أم إنها أعمال جوفاء تفتقر إلى رؤية ومنهج يحكمها؟ إن غواية منجزات محمد الشاوي تتجلى في ” حوارنا مع الذات المُشكّلة”، حوار يساعد على فهم أنفسنا والتعرف على حقيقة ذواتنا، بتعالينا على أي منهج عقيم، وتحررنا من سلطة آلياته لكشف ما انحجب من معارف وخبرات. “لعل أول شيء قد يتبادر لدى المتلقي العام لأعمالي التشكيلية سؤال بصيغة طلب المعرفة”. فالحقيقة المتخفية وراء خلفية أعمال محمد الشاوي، المتحجبة وراء اللون والشكل والتركيبات الثلاثية الأبعاد، مرجعية تتشاكل فيها، إلى درجة التحايل، رمزية الأنا الأعلى برمزية الأنا، لينكتب فيها واقع الذات، فيحول “اللاشعور إلى تأمل (…) والمسكوت عنه والغريب والناذر والملتبس والعجيب والأبكم إلى موضوعات تسائل” الألوان والأشكال والفضاء. إنها، كما عبر عن ذلك الفنان والناقد السوري عبد القادر الخليل: “مظاهرة فلسفية بلغة الفن، أفكار عاشت في مطبخ الفكر الفلسفي وتخمرت طويلأ وفتح لها نافذة الحرية. وظهرت هذه اللوحات الفنية ناطقة بلغة الجمال ولغة الحرية”، تحتجب أمام أي قراءة ممنهجة، ربما قد تشوش عوض أن تساعد على تبيان ما ورائية النسق الجمالي، لانتهاك حرمة حقيقة اللامفكر فيه. إنها تشكل حسب محمد الشاوي، عائقا إبستمولوجيا “ظل لسنوات من الزمن يهيمن على جل الأعمال التشكيلية”، ممارسة ونقدا. إن الحقيقة كما عبر عنها هيدغر، تتخذ من الحرية جوهرا لها، لتترك “الأشياء توجد وتكشف عن ذاتها”. (محمد سبيلا). وحينما نسائل محمد الشاوي من خلال ما يبوح به كباحث في النقد الفلسفي للفن، نجد الحقيقة والحرية تتقاطعان مع الطلائعية الجديدة التي “تشكل في جوهرها قطيعة مع كل ما هو بال وقديم (…) بقدر ما أنها تعبر عن تحرر الفنان المعاصر للخروج من القوالب النمطية والمسكوكات والأفكار الجاهزة والأشكال التعبيرية الصريحة نحو المضمر منها والخفي والصامت الذي لا يمكن خلخلته إلا بلغة العلم والمعرفة الفلسفية”. إنه يفجر بوحا إيتيقيا مافتيئ ينمط الحقيقة والحرية وأخلاقيات الإبداع داخل بؤرة المشهد التشكيلي العربي عامة والمغربي خاصة. 2- التحول إلى بنية مقصدية الفن اللعبية إن أعمال محمد الشاوي فقدت شيئيتها الأصلية لتتحول إلى بنيات فنية مستقلة، بعضها تتخذ متونها من اللعب مرجعيتها الشكلية، (عجلة دراجة أطفال، بيدق الشطرنج، تمثال فلامنغو، أسلاك على شكل أرجوحة…). أشياء تحولت على يد الفنان واكتملت لتصبح أشياء أخرى، غير ما كانت عليه، تغيير بنيوي لحق حقيقتها وجوهرها. نجد غادامير يسمي التحول البنيوي (من البنية) للعب إلى فن «transmutation en œuvre» أي (التحول إلى بنية). “يعني التحول الى بنية أن ما كان موجودا قبلا لم يعد قائما. ولكن ما موجود الآن، ما يمثل نفسه في لعب الفن، هو الدائم والحقيقي”. إن الأعمال التركيبية الثلاثية الأبعاد، تقحم المشاهد كطرف مشارك في قوانين لعبتها. فالمشاهد بتلبسه كلاعب، يصبح مثيلا لعارض اللعبة، أي الفنان. فالمتعارف عليه، في ميدان الفنون عامة، سواء كانت تشكيلية أو مسرحية أو موسيقية أو أدبية، أن أي عرض هو موجود من أجل الآخر الذي يستقبله، “الشريك الابدي في اللعبة”، المساهم في عملية “الانقذاف”، يؤول ويفكك الشفرات، وربما يعيد التركيب بطريقته الخاصة. فهو يعيد إبداع العمل الفني من جديد. فاللعبة كما بين غادامير في “الحقيقة والمنهج”، “تأتي بوصفها استعارة تكشف لنا عن نمط وجود العمل الفني”. وأعمال محمد الشاوي تُستعارإلى نوع من اللعب، لعب جدي، بالغ وليس لعبا طفوليا أو يافعا، يفرض ذاته على الذوات المشاركة، ذات الفنان وذوات المتلقين المتعددين، المنسلخين من ذواتهم المندمجين كليا مع الذات الغالبة. “فالذات حينما تدخل اللعبة تتخلى عن ذاتها وتتناساها في اللعبة التي تفرض قوانينها وحركاتها وصدارتها”. فأعمال محمد الشاوي لا تتحقق أهدافها إلا عندما يستسلم اللاعب (المتلقي) لحيلها ويفقد ذاته ويتناساها في اللعبة. إن اللاعب/الند، كما يرى غادامير، لا يعي بوجود اللعب واستحضار كينونته، بل إن اللعب هو من يحيط بوعي اللاعب ويدمجه في عالمه. وحينما نتحدث هنا عن اللعب، فليس من أجل تحقيق متعة أو استلذاذ الذات، “يجعلها منفصلة عن وجودها وعالمها، ومجرد فاعلية للتسلية تفتقر الى الجدية”، بل إن لعبة الشاوي تلاعب متلقيها بجدية. فالجدية صفة لاصقة بها، والخضوع إلى قواعدها قد يوصل إلى استكناه اللامفكر فيه عبر المفكر فيه. تغيب الذاتية في اللعبة (ذاتية اللاعب) لتفسح المجال لذاتية اللعبة التي برمج الفنان قواعدها وسن قوانينها، كي تستقطب فكر المتلقي (اللاعب الند). فالفنان لا يلعب مع نفسه كما يبدو، بل اللعبة هي أحيانا نده وأحيانا أخرى تكون وسيطا بينه وبين الآخر الذي يشغل مخيلته أثناء وضع قواعد اللعبة. لذلك ليس من السهل على أي كان أن يكون مساهما في اللعبة، أي ندا فكريا للمبدع إذا لم يكن يتوفر على وعي جمالي ووعي فكري/فلسفي يخاطب به واضع اللعبة، حتى يتقمص المؤول ذهنيا تجارب المؤلف وأفكاره، التي انبنى عليها النسق الجمالي/الترميزي للمتون التشكيلية، فيدرك مقصدية المؤلف. العمل الجاهز: تغيير مظهر المألوف عن هذا العمل كتب محمد الشاوي موضحا: “ارتبط عنوان هذا الموضوع بمدينة ريوخا الإسبانية التي تنتج نبيذا يحمل نفس اسم المدينة، وتوظيفي للعلبة الخاصة بهذا المنتوج يدخل في إطار الفن المعاصر. فاللعبة (أو العلبة)، تضم مكونات فنية ذات طبيعة متعددة المواد: صباغة زيتية لمدينة الريوخا بصيغة تجريدية، راقصة الفلامينكو، قاطع فني من حديد شكلت به اللوحة الزيتية، لعبة الشطرنج من خلال فكرة السياسة التي تضمها مكونات هذه اللعبة. بالإضافة لتوظيف نقرات الفلامنكو ذات المادة الخشبية للدلالة على مدى حضور الفلامنكو في الثقافة الإسبانية. عنوان العمل: علبة الريوخا التشكيلية”. كان هذا النص موجها إلى شخصيا عبر الماسنجر، وحينما قرأته التبس على المعنى بسبب كلمتي “العلبة” و”اللعبة”، من جنس لغوي/سيمنطيقي واحد. فهما (lapsus calami) وربما، بل أكيد نوعا من (lapsus memoriae)، يتعدى المنطوق إلى الذاكرة واللاوعي. يمكن اعتبار العمل الذي نحن بصدد قراءته نوع من الشيء الجاهز Ready made، تم تأثيثه من لدن الفنان، الذي تفادى قصدا اختلاس هوية العلبة كما فعل مارسيل دوشان حينما وقع على مبولته اسما مستعارا: « R. Mutt»، لأن المقصدية في العمليتين الإبداعيتين تختلف. فالفنان محمد الشاوي ترك العلامة التجارية للعلبة ليثبت مصدرها، ويحترم الملكية التجارية/الفنية للشركة المصنعة، بينما دوشان وقع باسم مستعار، مجهول ليثبت أن المبولة، الشيء المألوف Objet banal، يغادر شيئيته ليرتقي إلى مستوى العمل الفني، وأن أي إنسان يمكنه أن يكون فنانا مبدعا، وأن أي منتوج يمكن اعتباره عملا فنيا. لا شك أن الفيلسوف نيلسون غودمان سيتفق مع الفكرة، و”يفعِّل”لعبة محمد الشاوي. ففي أحد مؤلفاته يؤكد غودمان “معارضته لنظرية المؤسسات من خلال القول بأن لا شيء يقف في طريق فكرة أن الحجر الذي تم العثور عليه على الشاطئ يتم تفعيله مباشرة كعمل فني، دون أن يتم نقله من أي وقت مضى إلى متحف”. إن علبة محمد الشاوي التي وقع اختيارها صدفة، تستجيب لعدد من الأعراض الفتية التي حددها نيلسون غودمان. فهي تكشف عن روابط التحقيق Réalisation والتنفيذ Implémentation، أي “المشكلة والعملية التي تهدف إلى تسيير العوامل الإيجابية والسلبية بهدف تحسين أداء العمل الفني”. (غودمان) إذا نظرنا إلى “علبة الريوخا التشكيلية”، يتأكد لنا أن الشيء لم يرتق إلى مستوى العمل الفني إلا بعد انتقاء الفنان له واختياره، وتدخله بتأثيثه بأشياء التقطها وأخرى صنعها بيده، ثم عرضه على جمهور برواق. ولو افترضنا أن التأثيث احتفظ بحريته واستقلاله، فأكيد أن صورة العمل ستتغير كلما أُغلِقت العلبة، لأن ترتيب الأشياء بداخلها سيتقلقل، مما سيجعل الفنان مضطرا، في كل مرة إلى إعادة تثبيت ورسوخ مواضع كل عنصر داخل العلبة. هذا إذا كان ينوي الاحتفاظ على هويتها الأصلية، وإلا ستتغير هذه الهوية بتغير مواضع محتوياتها، ومن تم سنكون أمام نسخا للعمل الأصلي، الذي عرض في أول مرة. الحالة هذه ستذكرنا بمبولة دوشان الأصلية المفقودة، والمنتشِرَةُ نسخها في المتاحف العالمية. نحن أمام عمل هش للغاية، ليس بسبب خاماته ومحتوياته، ولكن بمعنى أن أي تعديل فيزيائي بسيط يمكن أن يؤدي دائما إلى فقدان وضعه Statut كعمل فني، وعودته إلى أصله كشيء مألوف Objet banal. وحتى يعاد اعتباره كأثر فني، يجب إعادة إخضاعه لعمليتي التنفيذ والتفعيل Activation من جديد. فعملية التنفيذ تتحقق عادة من طرف الفنانين والقيمين على المتاحف والأروقة، أي من لدن “عالم الفن”، ولكن المتلقين هم من يفعلون العمل الفني ويجعلونه “يعمل” حسب مفهوم نيلسون غودمان. فالتفعيل يستوجب تحقيق عملية التنفيذ والاستقبال الكافي من طرف الجمهور. إن التغيير الفيزيائي الذي يمكن أن يخضع له العمل الفني يؤكد أهمية التنقل/التحويل الذي أنجزه غودمان من خلال نظريته حينما تساءل “متى يكون هناك فن؟”. فدور التنفيذ Implémentation لا يقتصر هنا على استجلاء رؤية العمل الفني ولكن لتوجيهه إلى نوع خاص من الانتباه. فالعلبة بما فيها من أشياء يمكن مصادفتها داخل فضاء عادي، ولكن طالما أنه لا ينظر إليها مع الاهتمام المطلوب، لا يتم تفعيل إمكاناتها الجمالية. بهذا المعنى يتضح أن التنفيذ له دور تمييز العمل على هذا النحو وتكريسه لنوع معين من الاهتمام، وبعدما غدا العمل موضوعا للتأمل، وتم استجلاء إمكانات التجميع الجمالية المعتادة في حياتنا اليومية، نجحت “علبة الريوخا التشكيلية” في تحويل رؤيتنا عن المألوف le banal. فخلال التنقل تصبح العناصر المكونة للعمل الفني أشياء مألوفة. وهذا يختلف تماما عن لوحة رامبراندت التي استعملت لسد نافذة مكسرة. فلوحة رامراندت تبقى عملا فنيا رغم تغيير وظيفتها. علبة الريوخا لم تعد كذلك وقتما تصبح غير منفذة non implémentée. اتخاذ علبة نبيذ مملوءة بأشياء عادية كعمل فني وعنونته ب “علبة الريوخا التشكيلية”، هو في حد ذاته تغيير مظهر المألوفTransfiguration du banal حسب نظرية غودمان. هوامش: (*) فنان تشكيلي مغربي وناقد فني. 1- سعيد توفيق: الخبرة الجمالية، دراسة في فلسفة الجمال الظاهريتة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشروالتوزيع، بيروت، ط1، 1992. 2- محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي: الحقيقة، دار توبقال للنشر، الدارالبيضاء، ط2، 1992. 3- هانز جورج غادمير – الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، ط.1، دار أوبا طرابلس، 2007 4- هشام معافة. التأويلية في الفن عند هانس جيورج غادامير. ط.1، منشورات الاختلاف، الجزائر 2010 5- Nelson Goodman. L'art en théorie et en action/ Jean-Pierre Cometti et Roger Pouivet (Trads.). Ed. de l'éclat. 1996 5 - أنظر الدراسة التي قدمها الفنان والناقد عبد القادر الخليل عن الفنان محمد الشاوي بصحيفة فنون الخليج (موقع إلكتروني) بتاريخ: 24/03/2016