عادت مؤخرا مسألة انقطاع المياه "الصالحة للشرب" لتطفو على السطح وترخي بظلامها الدامس المشؤوم على ساكنة بلدة تيغسالين في عز أيام العيد السعيد، عيد الأضحى المبارك، الذي تكون الحاجة فيه إلى الماء أكبر بكثير من حاجة كائن حي مخنوق في صحراء جرداء، إلى جرعة ماء يدفع بها لقمة غاصة في حلقه حتى لا تزهق روحه. ولأن توفر الماء الشروب وضمان جودته حق مكفول في كل القوانين الوضعية التي تشكل أساس دولة الحق والمؤسسات عندنا في المغرب، فإن هناك على الأقل في نظري الشخصي مستويات أربع من المسؤولية بخصوص هذا المشكل الشاذ، لا يتنازع فيها اثنان! المستوى الأول شعبي/جماهيري، يرتبط بمسؤولية الساكنة ودورها الرقابي-الشعبي في ضمان السير العادي والسلس للخدمات العمومية التي هي من صميم معيشها اليومي، كالكهرباء والماء والإنارة العمومية والسير والجولان والذبح ونقل اللحوم والمقابر وقنوات الصرف الصحي والبيئة وشبكة الهاتف والمواصلات والصحة والتعليم وغيرها من المرافق العمومية الأساسية التي يستحيل بدونها تحقيق حد أدنى من العيش الكريم. إلا أن الاحتجاج الذي انخرط فيه الجميع (ومعلوم أن غالبية السياسيين المسؤولين عن تدبير الشأن العمومي المحلي لم تسجل حضورها في المظاهرة، ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول مدى الشرعية السياسية والمشروعية الاجتماعية لهؤلاء) كان وسيظل قرينة قوية على استيقاظ الضمير الجمعي وعودة اللحمة وامتثالها لمنطق انتزاع الحقوق المشروعة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وذلك في إطار سلمي هادئ ومنسجم، وفي خطوة تتسم بدرجة عالية من النضج والرزانة والمهابة وبكل ما تحمله مقولة "كلنا في الهم شرق!" من معان ودلالات. وبالتالي، تمت تبرئة ذمة الساكنة من أي مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة مما جرى ويجري على مسرح الأحداث المحلي، أمام الله الذي لا يهمل، وأمام تيغسالين الصامدة وأمام التاريخ الذي لا يرحم، وانتقلت عدوى المسؤولية إلى مستويات أخرى مؤسساتية وقانونية وبراغماتية-متداخلة، سنفصل فيها القول فيما يلي من فقرات. المستوى الثاني تمثيلي/مؤسساتي، يتصل بالاختصاصات الذاتية للجماعة الترابية ليتغسالين، الممثل الرسمي للساكنة المحلية والراعي المؤسساتي لمصالحها، ويتعلق الأمر أساسا باختصاصات المجلس الجماعي من جهة، واختصاصات رئيس المجلس الجماعي من جهة أخرى. فأما اختصاصات المجلس الجماعي (أغلبية ومعارضة) فيتضمنها الميثاق الجماعي في مادته 39 (وفي مواد أخرى طبعا)، والتي تنص في فقرتها الأولى على أن "المجلس الجماعي يقرر إحداث وتدبير المرافق العمومية الجماعية خاصة في القطاعات التالية: -التزود بالماء الصالح للشرب وتوزيعه، توزيع الطاقة الكهربائية، التطهير السائل وجمع الفضلات المنزلية والنفايات المشابهة لها ونقلها وإيداعها بالمطرح العمومي ومعالجتها...". وتؤكد المادة 40 منه على أنه يبغي للمجلس السهر على "الحفاظ على جودة الماء خاصة الماء الصالح للشرب والمياه المخصصة للسباحة". وأما اختصاصات الرئيس، فتتلخص، ارتباطا بالمشكل المطروح، في كونه أولا يجسد السلطة التنفيذية للجماعة لكونه يسهر على تنزيل مقررات المجلس المشار إليها في المادة السابقة، وثانيا "يسهر على نظافة مجاري المياه والماء الصالح للشرب ويضمن حماية ومراقبة نقط الماء المخصصة للاستهلاك العمومي ومياه السباحة" كما هو وارد في المادة 50 من الميثاق الجماعي. وإذن، فمسؤولية ممثلي الشعب في الجماعة الترابية لتيغسالين قائمة الأركان، لا ينكرها إلا جاحد أو منافق أو متزلف أو مغفل سياسي! وسنستعرض بدقة الطبيعة القانونية لهذا التكليف البالغ الخطورة، عند انتقالنا إلى المستوى الثالث، وذلك تنويرا للرأي العام، من جهة، من خلال الإحالة على قاعدة معطيات تشريعية بالغة الأهمية، ولمحاربة الأمية القانونية عند البعض من سياسيينا، وأيضا لإجراء نوع من "الجيمناستيك" العقلي لتحسين اللياقة الفكرية وتنمية كفايات الحكامة المحلية لدى المنتخبين المتخلفين عن اللحظات التاريخية والمختفين عن الأنظار في أوقات الحسم، والمتنصلين من المسؤولية الملقاة على عاتقهم، والمتحذلقين ممن يخفون ضحالة الحنكة وهزالة الوعي بجسامة مسؤولية تدبير الشأن العام المحلي، من جهة أخرى. المستوى الثالث تدبيري/قانوني صرف، يقترن بالتزامات المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب في تدبيره لهذا القطاع الحيوي الذي لا يحتمل التقصير بأي شكل من الأشكال. وسنستدعي لغة القانون مرة أخرى لإلقاء المزيد من الضوء على أبعاد وحدود هذا الاستهتار، وفيما يلي بيان للناس: ينص الميثاق الجماعي على ثلاث صيغ محددة لتدبير المرافق العمومية المحلية: التدبير المباشر والوكالة المستقلة والتدبير المفوض. ولما كان من المستحيل بالنسبة لأغلب الجماعات الترابية التكفل بشكل مباشر بالسهر على تدبير مرافقها العمومية ومنها الماء الصالح للشرب مثلا، نظرا للعبء الكبير الناتج عنها والمرتبط أساسا بالمسؤولية القانونية والإمكانيات التقنية واللوجيستيكية، وكذا الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية التي لا يتسع المقام لتوضيحها هنا، فإنها (أقصد الجماعات الترابية) تلجأ إلى تفويت بعض القطاعات الحيوية للشركات الخاصة أو الشبه-عمومية من أجل تسييرها وإدارتها في إطار ما يصطلح عليه في أدبيات القانون الإداري بالتدبير المفوض gestion déléguée ، وذلك بناء على عقد يفوض بموجبه شخص معنوي خاضع للقانون العام يسمى "المفوّض" (بكسر الواو)، وهو الجماعة الترابية، لمدة محددة تدبير مرفق عام، أي الماء، إلى شخص معنوي خاضع للقانون العام أو الخاص يسمى "المفوَّض إليه" (بفتح الواو)، أي المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، يخول إليه حق تحصيل أجرة من المرتفقين، أي المواطنين، أو تحقيق أرباح من التدابير المذكورة أو هما معا. لنلق معا نظرة شاملة على الأحكام العامة التي جاء به الظهير الشريف بتنفيذ القانون رقم 54.05 المتعلق بالتدبير المفوض للمرافق العامة، ولننظر في مصلحة من تصب هذه التوجيهات، وذلك دائما في إطار التنوير من جهة، وفي سياق إعطاء بعض الدروس القانونية لمن هم في حاجة إليها من المنتخبين المحليين. ولأجل التبسيط، سنوظف الاختصارات والمفاهيم التالية: المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب: اختصارا م.و.ك.م.ص.ش. التدبير المفوض: تدبير الماء من طرف م.و.ك.م.ص.ش. المفوض: الجماعة المحلية، المفوض إليه: المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، المرفق العام: الماء الصالح للشرب. فماذا يقول هذا القانون التأسيسي المرجعي عن التدبير المفوض؟ · المادة 3 من القانون 54.05 تصرح بأن المفوض إليه يتولى مسؤولية المرفق العام مع التقيد بمبدأ استمرارية المرفق أساسا، و تقديم الخدمات ذات الصلة بأقل تكلفة وفي أحسن شروط السلامة والجودة والمحافظة على البيئة. · المادة 17 من نفس القانون تنص بصريح العبارة على أن المفوض يتمتع إزاء المفوض إليه بسلطة عامة للمراقبة الاقتصادية والمالية والتقنية والاجتماعية والتدبيرية مرتبطة بالالتزامات المترتبة عن العقد. ويتمتع المفوض، بصفة دائمة، بجميع سلط المراقبة للتأكد من خلال المستندات وبعين المكان من حسن سير المرفق المفوض وحسن تنفيذ العقد.. كما يمكن للمفوض أن يقوم في كل وقت وحين بتدقيقات أو مراقبات خارجية أو أن يستعين بخبراء أو أعوان يختارهم ويخبر بهم المفوض إليه.. فضلا عن ضرورة احتواء العقد لعقوبات تزجر كل ما من شأنه أن يعرقل المراقبات التي يمارسها المفوض، كما تزجر عدم وفاء المفوض إليه بالمسؤوليات والتعهدات التعاقدية المتعلقة بالإعلام والتواصل. · المادة 18 تؤكد تنصيص عقد التدبير المفوض على هياكل لتتبع ومراقبة تنفيذ العقد. ويحدد اختصاصاتها وصلاحياتها. ويحدد نظام داخلي كيفيات سير هذه الهياكل. · المادة 19 تسطر ضرورة تنصيص العقد على أجندة اجتماعات الأطراف المعنية وفق فترات منتظمة، للنظر في مدى تقدم تنفيذ العقد. هذا عن حقوق المفوض وصلاحياته والإمكانيات القانونية الموضوعة رهن إشارته من طرف أعلى سلطة في البلاد مجسدة في الظهير الشريف المشار إليه آنفا، والذي يمثل الإطار المرجعي التشريعي لهذه الصيغة التدبيرية التي دخلت حيز التطبيق بصفة قانونية يوم 14 فبراير 2007. أما عن واجبات المفوض إليه، ففيما يلي مزيد من التوضيح. · المادة 24 من القانون السالف الذكر، تنص على التزام المفوض إليه بتدبير المرفق العام على مسؤوليته ومخاطره ويشمله بالعناية اللازمة. · المادة 32 تؤسس لحق المفوض في اتخاذ عقوبات ضد المفوض إليه في حالة عدم الوفاء بالتزاماته أو مخالفة البنود التعاقدية ولا سيما الجزاءات والتعويضات عن الأضرار، وعند الاقتضاء، إسقاط حق المفوض إليه. وقبل تطبيق هذه العقوبات، يجب توجيه إعذار إلى المعني بالأمر وفقا لإجراءات وكيفيات محددة يتضمنها عقد التدبير. بعد هذه الجولة الوجيزة في ردهات القانون، تتداعى في ذهني مجموعة من التساؤلات والاستفهامات، أرى من الضروري مشاركتها مع قارئ المقال: 1- هل المجلس الجماعي بأغلبيته ومعارضته ومن هم بين المنزلتين على علم تام بهذه المقتضيات القانونية؟ 2- إذا كان الجواب نعم، فلم لا يمارس هذا المجلس اختصاصاته وحقوقه التي تكفلها له النصوص القانونية المنظمة لطرق اشتغاله ومجالاتها؟ 3- إذا كان الجواب لا، ما الهدف الحقيقي والمستبطن الذي يدفع هؤلاء للترشح وطلب الظفر بالمسؤولية والتكليف؟ هل يتعلق الأمر فعلا بالرغبة في خدمة البلاد والعباد؟ أم أن البحث عن الوجاهة والسلطة واللقب هي المحدد الرئيسي لسلوك المرشحين؟ 4- هل قرأ منتخبونا المحترمون عقد التدبير المفوض الخاص بالماء ودفتر التحملات وملحقاته؟ وأين هي هياكل التتبع والمراقبة المشار إليها في الظهير الشريف حتى يتسنى للمتتبعين تدقيق المسؤوليات والبت فيها؟ 5- هل المجلس الجماعي واع تمام الوعي بخطورة المسؤولية الملقاة على عاتقه في السهر على حسن تسيير المرافق العمومية المحلية المشار إليها سابقا؟ 6- ألا يتوفر المجلس الجماعي على إمكانيات قانونية تجعله في موقع قوة، يقطع من خلاله دابر سوء التسيير والتدبير؟ المستوى الرابع من المسؤولية يتميز بالبراغماتية المشبوهة وبتماهي المسؤوليات، ويتعلق الأمر بانتشار خبر معزز بصور وشواهد صوتية منشورة في بعض صفحات التواصل الاجتماعي التي تعنى بتحليل ومناقشة وتقييم تدبير الشأن المحلي، خبر كان موضوع شعارات احتجاجية في التظاهرة السلمية التي خرج فيها المئات من الشباب والنساء والأطفال والشيوخ، مفادها تمرير قنوات الماء الصالح للشرب بشكل سري لفائدة جماعة أيت إسحاق إبان الولاية الجماعية السابقة، على اعتبار فائض المياه الذي تتمتع به جماعة تيغسالين، ويشاع أن تكون الواقعة تمت بناء على صفقات سياسية وتجارية متبادلة تمت في الخفاء. وإذا تم تأكيد هذا النبأ، فإن ما سيحز في نفوس الجماهير ليس مد الجيران بالماء على سبيل التضامن، كلا! فليس من شيم أهل تيغسالين البخل والتصرف بأنانية، بل هم معروفون على مر التاريخ بأخلاق الجود والكرم مع "الغرباء" فما البال إذا تعلق الأمر بأقرب الجيران! بل إن ما سيترك الأثر المؤلم في النفوس هو القفز على مواقف الساكنة وتهميش آرائها وضربها عرض الحائط بعدما فطنت للأمر وتظاهرت بشكل سلمي أمام مقر الجماعة إبان ذيوع الخبر آنذاك، حيث تم إشعارها بالوقف الفوري لهذه الخطوة الدوغمائية المستهجنة التي تفتقر لأبسط مبادئ التشاور الموسع والتراضي والقبول الجماهيري. وفي حال ثبوت الواقعة فإن كل الأطراف المؤسساتية المحلية ضالعة ضلوعا تاما وتتحمل بشكل متقاطع كامل المسؤوليات. وما دام مطلب استقالة المجلس الجماعي بعيد المنال على المستوى المنظور، فإن السلوك المنطقي الأقرب إلى الواقعية والذي يفرض نفسه الآن، والذي ينبغي أن يتبناه المجلس الجماعي بشكل عاجل لتجاوز الوضعية الحرجة الحالية من ناحية، وكسر جدار الصمت المطبق وكذا استخراج اللسان المسروط من ناحية أخرى، يرتكز - من بين ما يرتكز عليه- على ثلاث نقط أساسية، وذلك أضعف الإيمان: - أولا، الاعتراف العلني بعدم التفاعل السريع والناجع مع المشكل المطروح، وبغياب النظرة الاستباقية للحد من المشاكل خصوصا ما يرتبط منها بالمعيش اليومي للمواطنين، وتقديم اعتذار رسمي للساكنة. - ثانيا، طلب خبرة قانونية لإلزام م.و.ك.م.ص.ش باحترام بنود العقد المبرم، بل ومراجعته إن اقتضى الأمر، وحثه على القيام بالمهام المنوطة به على أكمل وجه، والالتزام بإشعار الساكنة قبل كل إقدام على وقف الإمداد بالماء أو الكهرباء. - ثالثا، التحقيق في مدى صحة خبر تمرير قنوات الماء الصالح للشرب للجماعة المجاورة، وإصدار بلاغ تكذيب أو حقيقة لإخطار الساكنة ووضعها في السياق. مما جاء في الأثر أن "من طلب (بضم الطاء) إلى شيء أعين عليه، ومن طلب (بفتح الطاء) شيئا وكل إليه"، وعليه، فيأيها السياسيون المحترمون! إذا كنتم أنتم قدر الله علينا، فليوفقكم الله لما فيه خير البلاد والعباد، وإذا كنا نحن قدر الله عليكم، فليعنكم الله على الصبر والتحمل، لأنه لا تطبيع ولا سكوت على تقصير أو تكاسل ولا على فساد أو استخفاف بعد الآن!