تميز العراق في تاريخه الطويل العريق بكثرة الحروب والقلاقل.. ولعل الأحداث التي عاشها العراق في المائة سنة الأخيرة تقدم نموذجا واضحا لذلك، فمنذ نشأة دولته الحديثة ملكيةً سنة 1921مرورا بثورة علي رشيد الكلاني مطلع الأربعينيات، وعودة الملكية،وثورة 1958 الذي شهدت ذبح العائلة الملكية تمهيدا لعدد من الثورات (1963/ 1964/ 1968 ..) وما رافقها من تطاحنات سياسية حتى انتهى الحكم لصدام حسين أواخر سبعينيات القرن العشرين ، الذي وإن استطاع تسيير العراق بقبضة من حديد، لم يزد العراق إلى انغماسا في مستنقع الحروب التي كانت سببا في نهايته المأساوية؛ نهاية لم يقتصر تأثيرها على بلاده فحسب بل جرت على المنطقة العربية تبعات لا زالت ارتداداتها إلى اليوم تهدد الاستقرار العربي ... وقد رافق الأدب ذبذبات وتفاصيل كل تلك التفاعلات، وتعد الرواية من أهم الأجناس الأدبية التي رصدت تأثير تلك الأحداث على سكان العراق.. على الرغم من كون العراق من الدول العربية الأولى التي تفتق فيها نبع الإبداع الروائي مقارنة مع الكثير من البلدان العربية، إذ كانت الانطلاقة مع رواية (جلال خالد) لمحمود أحمد السيد سنة 1927 ، فلم تتخلص الرواية العراقية من تعثر البداية إلا في منتصف الستينيات فلم يصدر إلا أربع روايات خلال حوالي أربعين سنة هي بالإضافة إلى النص المشار إليه أعلاه، رواية (مجنونان ) لعبد الحق فاضل و رواية (الدكتور إبراهيم ) لذي النون أيوب سنة 1939 ورواية (اليد والأرض والماء) لذي النون أيضا ... وانتظر العراقيون لتكون رواية (النخلة والجيران) لغائب طعمة فرمان سنة 1966 إعلانا عن بداية نضج الرواية بالعراق ويبني فرمان ثوابتها بأربعة أعمال متتابعة هي النخلة والجيران 1966/ خمسة أصوات 1968/ المخاض 1974/ القربان 1975 ... أما فيما يخص الرواية النسائية في العراق فقد كانت العراقيات البرومثيات أمثال حربية محمد ، آمنة حيدر الصدر، ليلى عبد القادر، مائدة الربيعي ، سميرة الدارجي.. منذ الخمسينيات يكابدن من أجل إيجاد موطن قدم لهن في الأدغال الروائية والأرض تهتز تحت أقدامهن في شكل انقلابات وثورات لتشكل كتاباتهن مرحلة النشأة والتأسيس ... وككل بداية كانت أول رواية نسائية بالعراق (من الجاني) لحربية محمد الصادرة سنة 1954 عن مطبعة الجامعة ببغداد، بدائية وأقرب إلى القصة الطويلة منها إلى الرواية إذ لم يتجاوز حجمها سبعمائة كلمة كما ظل عدد الروايات في هذه المرحلة على رأس الأصابع فلم يصدر بالعراق طيلة 20 سنة الأولى إلا حوالي خمس روائيات نسائية هي (من الجاني) لحربية محمد سنة 1954، ورواية (نادية) لليلى عبد القادر سنة 1957، ثم رواية (جنة الحب ) لمائدة الربيعي سنة 1968 ، ورواية (أشواك في الطريق) لسميرة الدراجي وأخيرا رواية (السابقون واللاحقون) لسميرة المانع سنة 1972 كان هذا الجيل قد مهد الطريق لجيل الثمانيات والتسعينيات من أمثال سميرة المانع و لطيفة الدليمي وهيفاء زنكنة، وبثينة الناصري ابتسام عبد الله ولطيفة الدليمي وميسلون هادي، إرادة الجبوري، وبديعة أمين وذكرى محمد نادر والهام عبد الكريم ... الجيل الذي وجد طريق كتابة الرواية أمامه معبدا لكن طريق الحياة كان شائكا بسبب كثرة الحروب وغياب الاستقرار لذلك وإن عرفت الرواية العراقية معهن تطورا في الكم والنوع فإنها ارتبطت في معظمها بالحرب خاصة بعد تفجير حرب الخليج الأولى.. هكذا سيشهد عقدي السبعينيات والثمانيات ما يزيد عن 20 رواية وقصة طويلة ما بين 1972 و 1993 وتمكن عدد من الروائيات من إصدار أكثر من عمل واحد في هذه المرحلة مثل عالية ممدوح التي أخرجت رواية (ليلى والذئب) سنة 1981 ورواية (حبات النفتالين) سنة 1986 ، وابتسام عبد الله التي صدرت لها رواية (فجر يوم وحشي ) سنة 1985 ورواية (ممر الليل) سنة 1988، وصدرت لناصرة السعدون روايتان هما (لو دامت الأقياء) سنة 1986 ، و(ذاكرة المدارات) سنو 1988 كما صدرت لليلى الدليمي روايتان هما (من يرث الفردوس) سنة 1987، و(بذور النار) سنة 1988 وهذا الرقم (20 رواية) . هذا التراكم وإن كان كبيرا مقارنة مع ما صدر في عدد من الدول العربية خلال نفس المرحلة فإنه يبدو ضعيفا إذا ما وضع ضمن العدد الإجمالي من الروايات الصادرة بالعراق آنئذ (حوالي 300 نص روائي) .... وسيتضاعف هذا العدد من كتابات النساء في الفترة المعاصرة كما ستسطع في سماء الرواية النسائية بالعراق روائيات فاقت شهرة بعضهن الحدود الوطنية لبلدهن بل والحدود القومية نحو الآفاق العالمية. ونحن لا يسعنا إلا أن نقدر لهن إبداعهن في عوالم ملأى بالحروب والأشلاء في وقت تعسر الكتابة على المرأة العربية الكتابة وهي تنعم بكل تجليات الاستقرار النفسي ، العائلي، والوطني في أمصار أخرى... بغياب الاستقرار السياسي في العراق وتوالي الحروب وجد عدد من الروائيات العراقيات نفسهن بين ناري الهروب خارج الوطن، أو الهروب إلى أحضان النظام مما نتج عنه ظهور نوعين من الرواية النسائية العراقية : رواية منتسبة للعراق بحكم الجغرافيا كتب على أرض العراق، ورواية منتسبة للعراق بالهوية كتب بديار الغربة بعيدا عن أرض الوطن وربما كانت أكثر تركيزا حول هموم الأمة لما تمتعت به من حرية لم تتوفر للواتي بقين بالداخل. والنوعان معا تم فيهما التركيز على تيمة النجاة والهروب بالنفس من المعتقلات، من الحصار ومن الموت.... وإن كان لا ذلك لم يمنع الروائيات العراقيات من مقاربة القضايا الذاتية كالحب، الجنس والجسد مقاربةً لم تختلف عما ألفيناه لدى الروائيات العربيات بالتركيز على أزمة الجنس، وتأزيم العلاقة بين المرأة والرجل، وتحميل الرجل مسؤولية الأزمة بإظهاره متسلطا محتقرا للمرأة وإن تميزت الرواية العراقية بإضافة أزمة الواقع الناتجة عن الحروب والهزائم المتتابعة إلا الأزمة الجنسية بين الرجل والمرأة ... من أمثلة ذلك روايات عالية ممدوح[1] التي تحتاج لوحدها دراسة خاصة ففي رواية (المحبوبات) تقدم الكاتبة صورة سلبية عن الرجل أبا كان زوجا أو ابنا... و تتحول الممارسة الجنسية بين الزوجين إلى لحظة تجرع (السم المغشوش) ، بل لم تعد تر البطلة (سهيلة ) في لحظة الجماع - التي يفترض فيها أن تكون لحظة حميمة تنسي المرأة مأساوية الواقع - سوى لحظة موت الشريك فيها "حفار قبور" مزعج مرعب تقول : (يأخذني كحفار القبور، فأنقاد إليه كجثة قديمة، يتحكم بظلام الغرفة ويركز قوة الضوء علي... على عجل، بسرعة بثيابه، وسرواله الكاكي والقبعة فوق رأسه، يفتح الإبزيم ولا ينبس بكلمة، لا ينظر في وجهي، يفزعني ولا يفزع، أصير فراغاً رهيباً، يصير فوقي...فتنقلب أحشائي، يدفعني فأذهب إلى الحمام أتقيأ)[2] وبما أننا ركزنا في روايات مختلف الدول العربية على أزمة الجنس ، والجانب الأيروسي في التعامل مع جسد المرأة ، سنحاول في مقاربة الرواية العراقية تقديم تعامل مغاير مع الجسد، من خلال رواية (طشاري) لأنعام كجاجي التي وإن ركزت على تشظي الهوية وجعل الموت لعبة يتساوى فيها الموتى والأحياء في المقبرة الإليكترونية التي أنشأها إسكندر حفيد البطلة (العمة وردية ) فإن ذلك لم يمنعها من التركيز على الجسد ، وتقديمه في صورة الجسد الطاهر العفيف، وليس الجسد الذي يشكل عارا للمجتمع ولصاحبته، لدرجة أنه لم يصدر عن أية شخصيات نسوية بالرواية اختزال للمرأة في جسدها، أو استسلامها أمام النزوات والغرائز الجنسية .... ومن تمة فإننا نخوض هنا غمار رواية من طينة أخرى تندرج ضمن روايات القضية، من خلال رواية (طشاري) آخر عمل للروائية العراقية المقيمة بباريس أنعام كجاجي، وهي من الأعمال النسوية القليلة التي تمكنت من الوصول للائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية .. ورواية (طشاري) كما هو شأن عدد هام من الروايات العراقية لا تبتعد كثيرا عن مآسي العراق، ومساهمة الحروب المتتالية في تأزيم العلاقات بين العراقيين... الرواية تحكيها الساردة العمة "وردية إسكندر " الطبيبة العراقية المسيحية المتخصصة في التوليد والنساء المزدادة بالموصل في وطن كانت تعيش فيه مختلف الطوائف متضامنة درست في ثانوية تعكس الوطنية و التسامح (في الثانوية تعرفت وردية لمعاني حب الوطن ، وكان في صفها أربع طالبات مسلمات، واثنتان مسيحيتان ، وسبع عشرة يهودية )[3] ومن الموصل هاجرت وأسرتها إلى بغداد حتى يتمكن أخوها سليمان من مواصلة دراسته العليا، وهناك تمكنت وردية من الالتحاق بكلية الطب ، ليتم تعينها طبيبة في الديوانية، تتزوج من الطبيب جرجس وتنجب بنتين (هندة وياسمين) وولدا (براق ) لكن ما عرفه العراق بعد حرب الخليج الثانية، والمسلسل الدموي عقب الغزو الأمريكي جعل أولادها وأحفادها يتشتون في العالم وتضطر هي الأخرى إلى اللجوء بفرنسا، هذه باختصار شديد الفكرة النواة للرواية.. ولعل أول ما يواجه قارئ الرواية هو هذا العنوان (طشاري) غير الفصيح ، والذي يعسر على غير العراقي فهم دلالته، لكن سرعان مل يتبدد هذا العسر بعد قراءة الرواية، فبالرجوع إلى المتن الروائي ، نجد الساردة ذكرت هذا العنوان داخل الرواية عدة مرات، وحاولت شرحه للقارئ ، ويبقى هذا الحوار بين الساردة وابنها خير ما يقدم إحالة دقيقة لشرح دلالة كلمة العنوان، فقد ورد في الرواية : طشاري يعني ؟ بالعربي الفصيح : تفرقوا أيدي سبأ يعني ؟ تشطروا مثل طلقة البندقية التي تتوزع في كل الاتجاهات. ماما وهل تكتبين أشعارا عن الأسلحة والرصاص ؟ إنهم أهلي الذي تفرقوا في العالم مثل الطلق الطشاري )[4] وبذلك تكون الرواية قد حددت هدفها في معالجة قضية الشتات العراقي الذي فرضته الحروب المتتالية على العراق وجعلته (طشار ) وهي مفردة شعبية تطلق في العراق على ما لا يمكن جمعه، لتبتعد بذلك عما عهدناه في الروايات العربية بنون النسوة التي تغرق في انتقاد الفكر الذكوري، وحتى وإن اشتركت رواية "طشاري " مع عدد من إبداعات الروائيات العربية في إظهار المرأة في صورة الضحية، المضطهدة، فإن للمرأة عند أنعام كجاجي طبيعة خاصة بتركيزها على المرأة المسنة القادمة من الموصل في كل رواياتها سواء في رواية (الحفيدة الأميركية) أو رواية «سواقي القلوب» أو في آخر رواياتها (طشاري) ولاختيار هذه الشريحة من النساء دلالتها بما تحمله من تاريخ وذكريات في بلد توالت عليه القلاقل، ولكون هذه الشريحة تكسب تعاطف القارئ باعتبارها أكثر الفئات هشاشة ( امرأة+ عجوز) وتعرضا لمخاطر الحروب في بلد كالعراق تنوعت ملله ونحله، لتسمو أنعام في رواية "طشاري" بقضية المرأة عن حصرها في الجنس، وأزمة علاقتها بالرجل ، و تحويلها إلى قضية إنسانية، فكيف صورت الرواية أزمة الشتات العراقي من خلال قصة العمة وردية ؟؟ ولماذا اختارت الطب ومهنة التوليد لتمرير رسائلها ؟؟ تبتدئ الرواية وقد وصلت الدكتورة وردية في سن الثمانين لقصر الإليزيه للمشاركة في حفل ينظمه الرئيس الفرنسي ساركوزي على شرف بابا الفاتكان بنديكتوس السادس عشر، استدعى إليه بعض اللاجئين من العراقيين المسيحيين ضمنهم العمة وردية إسكندر، التي أوصلها إلى الإليزي سائق مغربي اطمأنت إليه، لتجد في أجواء الحفل ما يذكرها بحياتها بالعراق ، هكذا تعود الرواية إلى ما كان عليه العراق في الخمسينيات وكيف التحقت البطلة بكلية الطب ، والصعوبات التي اعترضت سبيل أول دكتورة في الديوانية ، ونضالها من أجل تأسيس أول دار ولادة، وتحسين ظروف استقبال، معالجة وتوليد الحوامل، ونظرة المجتمع العراقي للطبيبة ، ولأول فوج من العراقيات اللواتي كان بإمكانهن اقتناء سيارة وسياقتها أمام الملأ، في مجتمع كان عدد من يملك سيارة محدود جدا.. وفي أجواء العمل تتعرف على جرجس الطبيب العراقي المسيحي المؤمن بأفكار جمال عبد الناصر، والعائد من فلسطين ، ويثمر هذا الزواج فتاتين وصبي ، وبعد عمر من العطاء والكفاح، وفي الوقت الذي كانت وردية تحلم بحياة مريحة في آخر العمر تجد نفسها في باريس ببيت ابنة شقيقها وابنها إسكندر الذي بنى لها مقبرة إليكترونية في حاسوبه حاول من خلالها تجميع قتلى عائلته على الأقل افتراضيا بعدما تفرقوا في مختلف بقاع الأرض واستعصى جمعهم أحياء، تتذكر وردية أبناءها فتشعر بجسدها أشلاء و(كأن جزارا تناول ساطوره وحكم على أشلائها أن تتفرق في كل تلك الأماكن، رمى الكبد إلى الشمال الأمريكي (حيث ابنتها هندة)، وطوح بالرئتين صوب الكاريبي (إذ يوجد براق)، وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج (مع ياسمين)، أما القلب فقد أخذ الجزار سكينه الرفيعة الحادة.. وحز بها القلب رافعا إياه باحتراس ، من متكئه بين دجلة والفرات ودحرجه تحت برج إيفل وهو يقهقه مزهوا بما اقترفت يداه (تقصد نفسها))[5] على الرغم من بساطة الفكرة وتقريرية اللغة، فإن الرواية عميقة في طرحها، وفي انتقالها عبر عدة أمكنة منتقاة بعناية (الموصل، بغداد ، الديوانية ،الأردن، باريس والتطلع نحو كندا ) واقتحامها لقطاع جد حساس في بلد كالعراق، ونقصد القطاع الصحي، بل ربما يعد المدخل الرئيس لتصحيح الأوضاع ، ومعالجة العقول والنفوس العليلة قبل الأجسام ، وضمن قطاع الصحة استهدفت الرواية تخصص التوليد لأنه المنطلق، فاستعرضت وظائف مختلف الفاعلين في القطاع من القمة في شخص وزير الصحة إلى أدنى الموظفين كالفراشين والأعوان مرورا بمدير الصحة والأطباء والممرضين... كما رصدت معاناة والنساء الحوامل رافضة اعتبارهم مرضى مستعرضة تعاطفها معهن : دون أن تميز في عملها بين أولئك اللواتي تقدمن لها وهن حاملات خارج مؤسسة الزواج (صاحبات الحمل غير الشرعي ) أو اللواتي يحملن (أجنة شرعية) متحملة كل العواقب، لا تبخل في تقديم أية مساعدة في معالجتها وتوليدها لكل مقبلة على الولادة وإن كان حملها غير شرعي متحدية الخوف من أي تصرف أرعن من الأهل (تخشى أن يأتي أحد من أهلها ويضع طلقة في رأسها وثانية في رأس الطبيبة التي تتستر عليها )[6] ودون إخبار السلطات، أو الخوف من رؤسائها تقول ( اسمع جناب الضابط، لقد قمت بواجبي كطبيبة وأنت تريد تحويلي إلى مجرمة)[7] كانت مقتنعة بما تفعله، تدافع عن مواقفها باستماتة أقنعت رئيسها (أن الفتاة في شهرها الثامن ، لو أخذوها لقابلة لتجهضها فإنها ستموت ويموت طفلها معها، وإن لم تمت على يد القابلة فعلى يد الأب أو الأخ)[8]...