/ قبل أن يتحول العالم إلى "قرية كونية" بتعبير الكاتب الكندي مارشال ماكلوهان، وقبل أن يصبح الحاسوب ملاذ كل من ضاقت به سبل العيش، عاش حياة صاخبة سِمتها التجوال في الأسواق الأسبوعية، محاولا رسم الابتسامة على محيا الجمهور المحيط به المحب للفولكور الشعبي الأمازيغي، والمحب للحلقة. إن المعني بالأمر في هذه الفذلكة هو ابن الأطلس المتوسط الفنان الراحل "لحسن أزايي"، الذي أسدل عنه ستار الترك الهجران قبل وبعد وفاته لما يزيد عن عقد من الزمن. معلوم على مر التاريخ أن الأطلس المتوسط وعاصمته خنيفرة ينبجس من رحمه (أي الأطلس المتوسط) فنانون وفكاهيون وشعراء لن يتكرروا، فنانون ظل موروثهم الثقافي حبيس الذاكرة الفردية والجماعية للنزر القليل من المعمرين الذين لا يزالون على قيد الحياة، وظل شفهيا دون التدوين، وظل مقترنا بأشرطة الكاسيط المتجهة صوب الزوال، ما قد يعرض هذا المتن الغزير من الإبداع للإتلاف والضياع، ومن بين هؤلاء الرواد أذكر مبتدئا بالفنان الراحل محمد رويشة رحمة الله عليه المروض للآلة الوترية، مرورا بالمايسترو موحى أولحسين أشيبان أطال الله عمره، وصولا إلى الفنان مغني محمد، الملقب بالقديس وصاحب الأنامل الذهنية الذي لم يسبق له أن غنى بإرادته ولو أغنية واحدة بغير لغته الأم "الأمازيغية"، انتهاء بالفنان والفكاهي والكوميدي الراحل "لحسن أزايي"، الذي لم يستفد من إيجابيات الغزو التكنولوجي للعالم، بالرغم من إبداعاته غير القليلة في مجال الفكاهة و"الحلقة" والفن عموما، باعتباره صاحب الحظ الوفير في هذه الورقة التي نتمنى أن تروق قراء هذا المقال. إننا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى أقلام تكتب عن شعراء وفنانين ورواد لم يستفيدوا من حقهم من الثورة المعلوماتية التي تغزو حيواتنا يوما بعد يوم، ولم تُسلط عليهم الأضواء من قبل عدسات القنوات العامة والخاصة، ذلك أن مواقع التواصل الاجتماعي تسهم اليوم، بشكل جلي، في ذيوع صيت الكثير من الشبان حديثي العهد بالفن. وعليه، فإن الدافع الأساس الذي جعلني أكتب عن هذا الكوميدي "الساخر"، هو أنني لما شاهدت بعض فيديوهاته على موقع "يوتوب"، التي تعد على أصابع اليد الواحدة، ارتأيت أن أكتب اسمه على الموقع العالمي "كوكل" بغية التعرف على حياته الخاصة عن قرب، غير أن نتيجة البحث صدمتني وجعلتني في حيرة من أمري، ذلك أن الشاعر لم يسبق لأحد من المهتمين بالشأن الأمازيغي عامة بالمغرب أن كتب عنه ولو مقالة واحدة قصد التعريف به لمن لم يسمعوا عنه سابقا، ولم أجد لاسمه أثرا على "وكيبيديا"، وبالتالي استنتجت نتيجة مؤداها أن الإعلام المغربي والمحلي على حد سواء لم ينصفا فناننا المغمور، وأن تكنولوجيا الألفية الثالثة لم توفه حقه من العناية والتقدير. ولهذا جاءت هذه السطور لإماطة اللثام عن هذا الفنان المقصي وتقريبه من الجمهور العاشق للحلقة بكل تلاوينها. ففي الوقت الذي لم نكن نملك فيه هاتفا ولا حاسوبا ولا فايسبوكا، كانت "الحلقة" حينها متنفسنا الوحيد نحن سكان منطقة تونفيت التابعة إداريا لإقليم ميدلت، كما هو الشأن بالنسبة إلى كل ساكنة مناطق عمالة خنيفرة سابقا، إذ كنا نتجمهر على شكل دائرة كبارا وصغارا نساء ورجالا والفنان الراحل "لحسن أزايي" يتوسطنا كل مساء يوم السبت، على اعتبار أن يوم الأحد هو يوم السوق الأسبوعي لأهالي تونفيت، لهذا يشد الراحل الرحال صبيحة كل يوم السبت إلى تونفيت من أجل إمتاع الجماهير العاشقة للحكاية والرواية والنكتة والأسطورة مساء اليوم ذاته، غير أن الفرق بين مسرحه ومسرح اليوم يكمن في أن هذا الأخير قار في مكانه والجمهور هم من يتجهون نحوه، في حين أن مسرح لحسن أزايي معروف بأن الفنان هو من يقصد جمهوره ويتجه إليهم في مناطقهم ومداشرهم دون أن يتكبدوا عناء شد الرحال والسفر مقابل درهمين على أكثر تقدير، ومن أجل كذلك محاولة إقناع جمهوره بشراء "الكاسيط" الذي غالبا ما يتكفل بتسجيلها لمفرده دون حاجة إلى استوديوهات اليوم التي تخلق فنانين جاهزين بين عشية وضحاها وبجرة قلم. كان رحمه الله عاشقا للفن، باعتباره فنانا تجري في شرايينه دماء مختلطة بالنكتة والدعابة، يخلق الفرجة من أبسط الأشياء التي تمر من أمامه، فكانت حكاياه دائما وأبدا مرفوقة بأبيات شعرية أمازيغية بصوته الشجي يجعل الجمهور المار بجانبه يلتحق بالركب المتحلق حوله، مستعينا في ذلك ببنديره الذي يتقنه ببراعة، محدثا جرسا موسيقيا تستطيبه الأذن وتطرب له النفس. كانت فلسفته في الحياة البساطة والتواصل بشكل ارتجالي دون إعداد قبلي لموضوع حلقته، يمتح مواضيعه من الواقع المعاش آنذاك، حيث تطرق شأنه شأن باقي الشعراء الآخرين، إلى موضوع المرأة وعلاقتها بالزوج، وتحدث كذلك عن أيام الاستعمار الفرنسي للمغرب إبان توقيع معاهدة الحماية، كما أنه عالج موضوع الرشوة، والزبونية، والخيانة الزوجية، والموت، ويوم القيامة، وعذاب القبر... إلخ من المواضيع التي بلورها في قالب فكاهي قصد الترويح عن نفس المنصتين إليه من الوافدين عليه من مداشر تابعة لجماعة تونفيت القروية. وللحصول على المزيد من المعطيات الموثقة المتعلقة بالراحل الفنان لحسن أزايي الذي لم يجد له موطئ قدم في الأنترنيت، اتصلنا ب "المكي أكنوز"، باعتباره "أرشيفستيا" وباحثا في التراث والأدب الأمازيغيين، وصاحب محل بمدينة مريرت لبيع "الكاسط" النادر لجل فناني الأطلس المتوسط، ليقدم لنا محطات من حياة الراحل، فكانت تصريحاته كلها تنم عن إلمامه بحياة الفنان أزيي الغنية، إذ أكد لنا المكي أن لحسن أزايي كان يلقب ب "بقشيش"، وله أكثر من 35 قطعة أمازيغية من إبداعه الخاص أعاد الفنانون بعده أداءها بطريقتهم العصرية، كما أن تجربته الأولى استهلها بالعزف على الناي، لينتقل بعد ذلك إلى العزف على البندير، والمعلومة التي يجهلها الكثيرون هي أن الفنان لم يسبق له أن عزف على آلة الكمان كما يعتقد البعض، بل المسمى "بوجمعة ن الزاويت الشيخ" هو من كان يتولى مهمة العزف على الكمان كلما كان في الحلقة. يضيف المكي أن فن الحلقة ليس كل من هب ودب بإمكانه أن يتقنه، بل تحتاج "الحلقة" إلى حكيم بليغ يملك خصائص ومقومات جذب الجمهور في زمن قياسي وبشكل تلقائي، بالتالي فالحلقة تحتاج إلى فنان يمتاز بسرعة البديهة ويخلق الفرجة من حيث لا يحتسب الجمهور، كما يؤكد أكنوز أن "عمي لحسن" رحمه الله كان يتقن فن الماية ببراعة، أو "ثاماوايت" بالأمازيغية، نظرا إلى امتلاكه لصوت ساحر وشجي، لدرجة أنه كلما لاحظ "الحلايقيون" الآخرون وجود لحسن أزايي في السوق يلغون حلقاتهم، لأنهم على علم مسبق بأن حصة الأسد من الجمهور من نصيب هذا الأخير، وبهذا كانوا يقترحون عليه أن ينضموا إليه قصد تنظيم حلقة واحدة متكاملة عوض أن تتعدد "الحلقات" في السوق الواحدة... وغيرها كثير من المجريات المتعلقة بالفنان الراحل لحسن أزايي التي أتمنى أن تكون هذه المقالة قنطرة لمداد مهتمين آخرين بالشأن الأمازيغي بالمغرب العامة، والأطلس المتوسط على وجه التحديد. جدير بالذكر أن الراحل لحسن أزايي ولد سنة 1948 ومات في حادثة سير سنة 1999 يوم السبت على الطريق الرابطة بين مكناس ومريرت حسب المعطيات التي توصلنا بها من المصدر ذاته، ذلك أنه لا أزال أتذكر وأنا صغير أن أحد "الحلايقية" قدِم إلينا مساء اليوم ذاته من أجل خلق الفرجة كالعادة، فاستفسره أحد الحاضرين إن كان سيلتحق الحسن أزايي أم لا، فأجاب بالإيجاب، غير أنه استطرد مستغربا تأخره، ليصلنا مساء اليوم ذاته نبأ وفاة الفنان والشاعر الحسن أزايي الذي مات في أوج عطائه وفي ظروف غامضة، مخلفا صدمة في نفوس محبي وعاشقي الحلقة و"الموال"، تاركا وراءه إرثا شفهيا غزيرا لا يستهان به، وخزانة ثقافية تحتاج إلى نفض الغبار عنها من قبل الغيورين على هذا الموروث الثري.