بعد المحطات الانتخابية الجماعية التي عرفها المغرب مؤخرا وما أثارته من نقاشات وجدالات سياسية وقانونية ... وبعدما هدأت حمى الاتهامات والتلاسنات... ، آن الأوان لكل الأطراف السياسية والمجتمعية لتقييم الحصيلة والمآلات وتحديد نطاق الربح والخسارة، لا بمعيار المقاعد والمناصب المحصل عليها ، لكن بمنطق الديمقراطية وبمفاهيمها ومعاييرها الكونية والمرجعية . مما يستلزم فتح نقاش عام ، هادئ وموضوعي، في محاولة جماعية للإجابة عن سؤال واحد :هل كسب المغرب الرهان الديمقراطي من خلال هذه الانتخابات وسابقاتها؟ 1 - الانتخابات والديمقراطية . الانتخابات كما هو معلوم ، جزء لا يتجزأ من الديمقراطية وآلية من آلياتها الأساسية، فالعلاقة بينهما وثيقة ومتلازمة ولا تتحقق أي منهما في مستوياتها الطبيعية دون دعم وحضور للأخرى. ولا يمكن فصل المبدأ الديمقراطي عن الانتخابات كوسيلة للتعبير عن الإرادة العامة وإسناد السلطة الشرعية، كما لا يمكن قيام ديمقراطية حقيقية ما لم تكن الانتخابات وسيلة للاختيار والمحاسبة. الديمقراطية أيضا هي سيرورة متكاملة ومنظومة يتقاطع فيها السياسي والقانوني والثقافي والاقتصادي والمؤسساتي... فإن تعطل جزء اختل البناء وتعطل، فهي _الديمقراطية_ ليست مجرد عنوان أو شعار يمكن إقرانه باسم نظام أو دستور أو حزب...، بل هي ممارسة يومية وبيئة عامة يفترض فيها توفر شروط وضمانات لازمة حتى تكون تلك الممارسة سليمة وناجعة ، بما يحقق الحرية والمساواة ومشاركة الجميع في القرار السياسي وتدبير الشأن العام دون إقصاء أو تهميش . وبعبارة أخرى تحقيق مفهوم المواطنة كغاية أسمى للديمقراطية. إن التنزيل الفعلي للديمقراطية يستلزم – بالإضافة إلى توفير بيئة حاضنة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا...- وضع إطار سياسي ومؤسساتي يكون ضابطا ومؤصلا لشكل تنظيم السلطة وتوزيعها وممارستها حتى لا تتمركز في جهة واحدة كما حذر من ذلك كل من أرسطو وبعده جون لوك ومنتسكيو وآخرون، كما يستلزم أيضا تحديد سبل إسنادها والتداول عليها حفاظا على السلم والتماسك المجتمعيين. ونظرا لما يقتضيه هذا الأمر من أهمية وحساسية، دأبت مجموعة من الأنظمة على تسطير ذلك وحسمه في دساتيرها . رغم كون بعضها يكتفي بتبني الواجهة الديمقراطية لكن بمضمون وممارسة سلطوية، فأغلب الدساتير تؤكد في ديباجاتها و موادها الأولى على أن الدولة ديمقراطية أو دستورية...، لكن ذلك يبقى غير كاف ، حيث إن واقع الممارسة العملية للسلطة هو من يحدد فعليا المسار الحقيقي للدولة. 2- النظام السياسي المغربي وتوزيع السلط. لعل المتتبع للشأن السياسي يلاحظ أن المغرب يعيش مناخا سياسيا خاصا ، ميزته الأساسية الاختلال والالتباس وغياب فعل ديمقراطي حقيقي ؛ يتجلى ذلك بوضوح في طبيعة النظام السياسي وتوزيع السلط على نحو لا يضمن التوازن والمراقبة وربط المسؤولية بالمحاسبة ، كما يتجلى أيضا على مستوى التعددية السياسية وواقع المعارضة... كل ذلك يبقي عدم الاستقرار السياسي سمة بارزة في الحياة السياسية بالمغرب بالنظر لكون هذا الوضع " ليس وليد اختلالات آنية في المشهد السياسي، وإنما اختلالات بنيوية في قواعد الحقل السياسي برمته"[1]. لأخذ فكرة عامة وأولية عن طبيعة النظام السياسي المغربي وتنظيم السلط من خلال الوثيقة الدستورية على الأقل ، نقف عند الفصل الأول من الدستور الحالي وبالضبط فقرته الأولى والتي تنص على أن "نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية". كما تنص الفقرة الثانية من نفس الفصل على: "يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها..."، من خلال هاذين النصين نتساءل عن دور المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي وعلاقتها بباقي السلط وهل تقوم هذه العلاقة على احترام مبدأ الفصل والتوازن؟ سنقتصر في هذا المقال على المؤسسة الملكية ، سلطاتها و اختصاصاتها من خلال الوثيقة الدستورية على أن نتطرق في مقال مقبل لعلاقتها بباقي السلط :التشريعية والتنفيذية والقضائية. لقد كرست الدساتير المغربية منذ دستور ما بعد حالة الاستثناء (دستور 1970) هيمنة وسمو المؤسسة الملكية على باقي المؤسسات الدستورية الأخرى وذلك بالاستناد إلى عدة مرجعيات أهمها المرجعية الدينية من خلال "إمارة المؤمنين المانحة للحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغوية..."[2] والتي بموجبها يوضع الملك في المرتبة الثالثة بعد الله والرسول (صلى الله عليه وسلم) ، يقول الراحل الحسن الثاني في أحد خطاباته: "إنني كخليفة أستمد سلطتي مباشرة من الله والرسول وليس من الدستور"[3]، إن اعتبار الملك بهذه القداسة وهذا المنطق يستلزم أن تكون له وضعية سياسية خاصة بحيث "إن الملك الذي هو "أمير المؤمنين" و"ظل الله في الأرض" "يستمد" مأموريته من الله ويسهر على "استمرار الدين"، تلزمه سلطات واسعة وحضور دائم وقوي في جميع الميادين التي تهم الشأن العام إذ "الخليفة" مصدر للتشريع الأسمى"[4]. بالإضافة إلى المشروعية الدينية يصر النظام على بناء وترسيخ مشروعية تاريخية مؤداها أن وجود الملكية بالمغرب سابق لوجود الدولة ذاتها بل إن الملكية هي التي أنشأتها والضامنة لوجودها ودوامها مما يحتم وضعها –أي الملكية- في مرتبة أسمى حتى من الدستور وبالتالي فلا مجال للحديث عن توازن السلطات لأن المؤسسة الملكية فوق هذا المبدأ ومنها تنبثق باقي السلط . لقد سبق للراحل الحسن الثاني تأكيد ذلك بقوله: "إذا كان هناك فصل للسلطات فإنه لا ينطبق على مستوانا، بل على المستوى الأدنى"[5]. وبالرجوع إلى نص الدستور الحالي نجد هيمنة واضحة للمؤسسة الملكية من خلال فائض من الرئاسات ؛ فالملك فهو رئيس الدولة[6] ورئيس المجلس العلمي الأعلى[7] ورئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية[8] كما يرأس المجلس الوزاري[9] والمجلس الأعلى للأمن[10] ويعين نصف أعضاء المحكمة الدستورية ورئيسها[11] ويعين أيضا خمس شخصيات بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية[12] ...، كما يعتبر الرئيس الفعلي للسلطتين القضائية والتنفيذية وله صلاحيات واسعة تجاه البرلمان وتبقى أهم سلطة دستورية يهيمن عليها الملك هي السلطة التأسيسية الفرعية التي من خلالها يستطيع إلغاء المشهد السياسي القائم بمؤسساته و توازناته، وإعادة ترتيبه من جديد على المقاس . اختصاصات كثيرة ومتنوعة منها ما يندرج ضمن الباب الثالث الخاص بالملكية ومنها ما يتوزع على باقي الفصول، إضافة إلى سلطات أخرى فعلية كرستها "التقاليد والممارسات البروتوكولية والسلطانية" لم يتم التنصيص عليها صراحة غير أنها تجد موضعا لها ضمن امتدادات ومشمولات المجال التأويلي لبعض فصول الدستور خصوصا الفصلين 41 و 42. فبالرغم من "محاولة المشرع المغربي تحجيم "المجال الضمني" لفائدة المجال الصريح في دستور 2011 إلا أن المجال الأول لا يزال يخيم بظلال كثيفة على الوثيقة الدستورية الجديدة وهو ما يدل على أن روح الفصل 19 من الدساتير السابقة لا تزال حاضرة بقوة في ثنايا دستور 2011"[13]. لقد تم استبدال عبارة "الممثل الأسمى للأمة" بعبارة "الممثل الأسمى للدولة" إلا أن ذلك وحسب البعض ليس سوى مجرد إيهام ومناورة لأن مفهوم الدولة أشمل من مفهوم الأمة إذ يندرج ضمن أركانه إلى جانب الإقليم والسلطة السياسية. من خلال ما سبق يتبين أن المؤسسة الملكية فاعل رئيسي في النظام السياسي المغربي وسلطاتها تمتد لتشمل باقي السلط والمؤسسات السياسية ؛ ما يجعل "النظام المغربي، مهما تكن مميزاته الحقيقية وخاصة الأسس التي يستند إليها، ليس سوى حالة من حالات السلطوية العربية"[14]التي طالما أشارت إليها التقارير الدولية، كالتقرير الذي أعدته وحدة "الإيكونوميست البريطانية للمعلومات" حيث حصل المغرب على "الرتبة 120 حسب مؤشر الديمقراطية" وجاء تصنيفه هذا ضمن خانة البلدان ذات "النظام السلطوي"[15].