باحث في الدراسات الدستورية والسياسية لا يكفي النظر أو الاقتصار على الجوانب الدستورية لمعرفة مدى أخذ المغرب بمبدأ فصل السلط، إذ يجب الاطلاع على نظرة المؤسسة الملكية، وذلك عبر خطابات الملك، وسوف نحاول الاطلاع من خلالها على الرؤية الملكية لمبدأ فصل السلط انطلاقا من مسلمة هيمنة وقوة هذه المؤسسة في النظام الدستوري المغربي، وسوف نبحث ذلك بشكل كرونولوجي مقتصرين على أهم الخطب التي تتضمن دلالات تتعلق بفصل السلط. حيث نجد انه أمام الممثل السامي الفرنسي صرح المغفور له الملك محمد الخامس رحمه الله بتاريخ نونبر 1955 “نود ان نجدد تأكيد عزمنا وإرادتنا في أن نكون ملكية دستورية لدولة عصرية ديمقراطية مستقلة”. إذن، فقد كان المغفور له يتطلع الى دولة عصرية ديمقراطية، وبديهي ان يكون فصل السلط أحد أهم مبادئها، وهذا ما يظهر بجلاء في خطاب آخر بمناسبة تشكيل أول حكومة في 17دجنبر1955، حيث قال: “فعلى وزرائنا الكرام أن يتقوا الله في الرعية ويدبروا شؤون البلاد على أساس فصل السلط”، ليأتي لنا العهد الملكي والذي هو عبارة عن خطاب ملكي ليتضمن هذا المبدأ ويتبناه، حيث تم التمييز بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فالأولى تختص بها الحكومة والثانية يباشرها الملك مع المؤسسات التي سيقيمها. من خلال هذه الخطابات يتضح لنا بان المغفور له الملك محمد الخامس رحمه الله كانت له رغبة في إقرار مبدأ فصل السلط، سعيا منه لتوطيد ركائز نظام ديمقراطي بعيدا عن السلطة المطلقة، رغم أنه كان في المرحلة الانتقالية لوضع الدستور يقرر بصريح العبارة ان السيادة الوطنية تتجسد في الملك. وبعد وفاة المغفور له الملك محمد الخامس تولى المرحوم الملك الحسن الثاني العرش، والذي كان يعتبر “الملكية المغربية لا تختلف في جوهرها عن باقي الملكيات التي تتضمن فصلا للسلطات”، لكن هذا الفصل يختلف عن فصل السلطات بالمعنى المتعارف عليه، حيث قدم له تأويلا خاصا بالنظام المغربي حيث صرح المرحوم في خطاب له بتاريخ 22 ماي1977″إذا كان هناك فصل للسلط فلا يمكن أن يكون على مستواي، ولكن في المستوى الأدنى، فالملك مطالب بتدبير وتحديد سياسة بلاده بمساعدة كل من السلطة التنفيذية المتمثلة في الحكومة وكذلك السلطة التشريعية أي البرلمان”. فالمنتخبون يشكلون مع الحكومة سلطة تشريعية تساعد الملك الذي لا يوجد فصل للسلط على مستواه في حكم البلاد، “ففصل السلط لايكون الا على مستوى البرلمان أو الحكومة، فهو في مرتبة دون الملك”، فرغم اعتراف المرحوم الملك الحسن الثاني بأهمية فصل السلط، حيث وصفه ب”الضروري و الواجب”، ولكنه يرى بأنه”لايجب أن يفهم في المستوى الأعلى للسلطة”. ولعل هذه النظرة لفصل السلط ولكونه دون الملك ناجم عن التصور الديني المرتبط بإمارة المؤمنين والتي تمثل الركن الركيز في الدستور المغربي والذي يمكن ان نستشفه من الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب حيث قال: “إن هذا الدستور مبني على أسس ثلاث: أولا إعطاء الحكومة مسؤوليات أكثر حتى يمكنها عند الامتحان أن تعز أو تهان ثانيا إعطاء منتخبيك الوسيلة القانونية والموضوعية لمراقبة الحكومة وتشجيعها على السير أو الطلب منها أن تتوقف عن العمل، أما الركن الثالث ورغم هذا كله فقد بقي خديمك وملكك ساهرا على سير هذا كله لتسيير الدواليب بكيفية متوازنة ومرضية ولا تطاحن فيها واعوجاج ولا انحراف، وأن تفويضي لبعض السلط للحكومة أو البرلمان ليس تفويتا. سأبقى خادمك والساهر بالليل والنهار على شؤونك”. فالسلط غير مرتبطة بالبرلمان والحكومة بقدر ما هي مرتبطة بشخص الملك أو بعبارة أدق”أمير المؤمنين” فهي سلطات غير”مفوتة” ملتصقة ب “أمير المؤمنين”، فالملكية تنطلق في تحديدها لمفهوم فصل السلط من كون “طبيعة مهمة الملك هذه تؤدي بالنتيجة الى رفض مبدأ فصل السلط، لأن هذا الاخير يقتضي سلطات متعددة. وفي المغرب فان السلطة الوحيدة هي السلطة الملكية التي تتفرع عنها كل الوظائف الاخرى” حسب خطاب المرحوم الملك الحسن الثاني. وهذا ما لاحظه “با حنيني” والذي رأى بأن القوة الدستورية التي يتمتع بها القانون الخلافي”امارة المؤمنين” خولت للعاهل مكانة سياسية خاصة وعليا، هذه المكانة تقتضي ان يكون صاحب سلطة المراقبة العامة على كل الاجهزة بدون استثناء، إذ انه هو المراقب الأعلى وذلك طبقا لمقتضيات الفقه الاسلامي، هذا الأمر الذي انتبه إليه”با حنيني” أكده خطاب الملك أمام البرلمان في 13اكتوبر1978، حيث قال: “فالمؤمنون هم أولئك الذين حملوكم مسؤولية التعبيرعن إرادتهم، فمن كتاب الله تعالى يمكن أن نستنتج أن كل من حمله الله مسؤولية تشريعية أو تنفيذية يجب أن يخضع للمراقبة: مراقبة الله أولا، ومراقبة الذي حمله الله مهمة القيام بأمور الأمة الإسلامية، وأخيرا مراقبة الناخبين”فكل السلطات تابعة للملك إذ أن المرحوم الملك الحسن الثاني رحمه الله يرى بأن فصل السلط موجود ولكنه فقط في المستوى الأدنى دون المستوى الأعلى أي الملك، فالحسن الثاني”عبد الله الضعيف، خادم المغرب الأول، عبد ربه، بالنسبة لي ليس هناك فصل في السلط أنا أب الجميع، أب المشرع وأب المنفذ”، ويظهر ان غياب فصل السلط يجعل الملك لا يفرق بين الوزراء والنواب”فملك المغرب ربما هو الوحيد في العالم الذي يمكن أن يقول أن لديه أزيد من 300 وزير… ولكن من الصبغة الخاصة لملكيتنا الدستورية التي يجسدها شخص الملك الذي هو أمير المؤمنين وتتلاقى في جميع المستويات هو أنه لا وجود لفصل السلط بالنسبة للملك ولهذا فأنا أعتبركم وزراء”. بعد تعرفنا على كل من رؤية المرحوم الملك محمد الخامس والحسن الثاني رحمهم الله بخصوص فصل السلط، يمكننا التساؤل عن مفهوم جلالة الملك محمد السادس نصره الله لفصل السلط، خصوصا أنه يطرح فكرة “المفهوم الجديد للسلطة”. وانطلاقا من الخطاب الملكي ل9 مارس 2011، قال جلالة الملك نصره الله: “قررنا إجراء تعديل دستوري شامل، يستند على سبعة مرتكزات أساسية” حيث جاء في المرتكز الرابع ب” توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها” كما يمكن القول بأن دستور 2011 جاء متقدما عن سابقه، لأنه عزز اختصاصات العديد من المؤسسات، و أقر مبدأ فصل السلط للمرة الأولى في تاريخ الدساتير المغربية، الفصل الأول من دستور 2011 الذي ينص على الآتي “… يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها…” إذن يكرس الدستور الجديد بشكل واضح مبدأ الفصل بين السلط، الذي يشكل أحد مرتكزات كل نظام ديمقراطي، من خلال توزيع حكيم وفعال ومتوازن للسلطات وتعريف واضح للمسؤوليات وبتأكيد المشروع الجديد على سمو الدستور كمصدر لجميع السلطات، وبأسسه القائمة على مبدأ سيادة الأمة، في ظل مقومات نظام ملكي دستوري ديمقراطي برلماني واجتماعي تقدم الهندسة الدستورية الجديدة توضيحا بشأن صلاحيات مختلف السلط، وتوسيع اختصاصات الحكومة والبرلمان، إلى جانب تحديد واضح ومفصل للصلاحيات المخولة للملك “ملكية مواطنة ضامنة لحقوق الأمة ” وبموجب الدستور الجديد، فإن الملك كأمير للمؤمنين (مكلف بالمجال الديني)، وكرئيس للدولة له مهام (تمارس كما هو منصوص عليها في الدستور)، وممثل أسمى للدولة، هو رمز الوحدة الوطنية والترابية، ويسهر على مهام التحكيم، ويؤتمن على الخيار الديمقراطي وعلى المصالح العليا للبلاد. وهكذا يتم تعريف الملكية في الدستور الجديد، كملكية مواطنة ضامنة لثوابت الأمة، وتسهر على مهام السيادة والتحكيم الآسمى.