عرفت المجتمعات البشرية قاطبة منذ القدم ظاهرة الجريمة وتعايشت معها وعرّفتها في دساتيرها وقوانينها بردّة فعل عدواني تهدد الجنس البشري نفسانيا ،تربويا ،اقتصاديا ثقافيا ،اجتماعيا وسياسيا وبأساليب وأشكال أكثر تفننا وتنوعا. في حين أكدت الدراسات المختلفة أن تصاعد وثيرة هذه المشاكل الاجتماعية تؤثر سلبيا على العادات والقيم والمعايير السلوكية وتتولد عنها أمراض مجتمعية جد خطيرة بكل الأوصاف والمقاييس، ولا يسلم منها أي بلد ولا تقتصر فقط على المجتمعات المتخلفة من غيرها كما تنتشر كالنار في الهشيم في المحيطات الاجتماعية ذات المستويات الثقافية والاقتصادية والعقائدية الجد المتدنّية . فكما يزدهر أي مجتمع بصلاح أفراده فهو كذلك يتقهقر بفسادهم ويتأثر بالأوبئة الأخلاقية والأمراض الاجتماعية الغريبة عن هويته وثقافته التي تزعزع استقراره وتفقد سلامة وأمن جميع مواطنيه. بعد هذا التقديم الوجيز أدخل مباشرة إلى عمق هذا المقال المتواضع الخاص بغية التفحيص وتسليط الضوء والتحسيس بعد إذن أصحاب الفضل والاختصاص ،لنقف سويا على دوافع ومسببات هذه الظواهر المجتمعية الفاسدة،ونتوصل إلى معرفة الصيغ الوقائية وبعض الطرق العلاجية بمشيئة الله. بداية تتحدث أحدث الدراسات الدولية عن نسب عالية من الانحراف والإجرام في صفوف الأوساط القليلة الثقافة والمعارف أو الغير المتعلمة والتي عادة تنمو وسط تربة الاهمال وتترعرع في بطن أرضية القصور التربوي والتعليمي خاصة في سماء اللامبالاة المحفوفة بغياب التوجيه وقلة الرقابة من الأسرة والمجتمع. هذا،وترجع دراسات في نفس السياق إلى العامل الوراثي المسبب للإضرار بالأمان الروحي والعاطفي الذي تصعب السيطرة بدونهما على رغبات نفس الشخص المصاب وعلى دوافعه الغريزية الهائجة. كما ترجح بعض هذه الدراسات أسبابا أخرى نذكر منها: 1) المسببات العضوية كالأعراض المرضية والاضطرابات النفسية والسلوكية والعوامل المجتمعية والضغوطات الاقتصادية الحادة المولّدة لظاهرة عدم التوازن الاجتماعي والاختلالات الأخلاقية الفاسدة من عادات وصفات، والتي تعود غالبا إلى سوء التربية الأسرية أو التقصير في المناهج الدراسية ممّا يزرع في نفس الضحية الشعور بالكراهية اتجاه المجتمع بأكمله : ابتداء من نفسه وأسرته لينتهي بغيره أكان فردا أو مؤسسة ،نظاما أو قانونا،وأعتقد أن فقدان روح هذا الترابط الأسري والمجتمعي يتسبب في رفض العامل الأناني والعدواني للمريض كل أوجه القيم الشرعية والتربوية والثقافية التي سبق له أن تلقاها في السابق. وتكثر هذه الظاهرة الغريبة وسط الوضعيات الاجتماعية الهشة التي يسهل فيها تصادم النسيج الاجتماعي فيما بينه ويكون مهيّئا لنشر السلوكيات الغير المقبولة مثل ( الكراهية ،التفكك الأسري ، سوء تفاهم الوالدين غياب أو انحراف أحدهما بالإدمان على المخدرات أو الكحول،تشرّد الأطفال ، الأمية ،التخلّف ،الجهل ،التهميش ،عدم التبصّر ،التقليد الأعمى ،الفساد ،الدعارة ،العنف ،الاغتصاب بكل أنواعه سواء كان ضد النساء والقصّر أو زنى المحارم وما شابه ذلك.. ) 2) سوء الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتمثل في تدنِّي الحالة المعيشية للفرد نذكر من أسبابها: استفحال الفقر والبطالة ،عدم الاستقرار المهني الغير اللائق ،الهجرة القروية، عدم الاندماج في المحيط الجديد ، قلة الدخل ،الحاجة ،الفشل في التوافق المهني وغيرها... كل هذه العوامل ومسببات أخرى تولّد شحنة القلق والخوف على المستقبل أمام ازدياد المطالب الفردية على اقتناء مغريات البيئة في ظل سوء الحالة الاقتصادية وغلاء المعيشة المتزايد الذي لا يعرف التوقف ولا الانقطاع. وهذا ما يساهم بلا شك في حرمان الفرد من تلبية متطلباته الأساسية وإشباع حاجياته الشخصية ويحرمه الأمن والاطمئنان ويحسّسه بالشعور داخل وخارج وسطه بعدم الاستقرار والأمان .كما يسهل عليه عملية التأقلم والتعوّد والانسجام على بعض السلوكات الاجتماعية الغير السوية والمرفوضة من المجتمع أو الممنوعة بقوة القانون،والتي تخلق ظروفا ملائمة ومناخات جد مهيَّئة للحرمان والإحباط وتدفع باتجاه التنافس الشديد والصراعات والانحراف أو إلى ساحة الاضطهاد والاستغلال وعدم المساواة . وهذا ما يفتح على الأسرة والمجتمع كل الأبواب اللاأخلاقية من متاجرة في الممنوعات والمحرمات من (خمور ،حبوب هلوسة ،مخدرات بجميع أنواعها ،السرقة ،الرشوة ،الاحتيال ،الغش ،التزوير،الذعارة،الفساد وغيرها...) ومن الواضح أن هذه الأمراض المجتمعية قد تفضي إلى هلاك الشخص المدمن بلا هوادة وقد تؤدي به إلى القتل والسجن أو إلى الإقدام على الانتحار في بعض الأحيان. 3) ظاهرة التطور السريع في عصر العولمة اليوم وما يعرفه من برامج حاسوب وسرعة انترنيت وتنوّع المواقع إلكترونية والتليفونات الخلوية الذكية وأجهزة الألعاب المحمولة فائقة التقنية، ووفرة وسائل الإعلام بكل ثقلها وميولاتها السياسية والفكرية والمادية، التي تنشر تفاصيل كل الجرائم والمحرمات والمفاسد والآراء الإلحادية وغيرها كما تدفع المتتبع إلى تقليد انحرافات المشاهير ومظاهر السطو والسرقة والإجرام ،والتدليس والغش والعنف ،وتنشر الشذوذ الجنسي بكل أنواعه عن طريق الأفلام الخليعة ومشاهد الصور الماجنة. إضافة إلى تعدد القنوات الفضائية المغلطة ووفرة وسائل الإعلام المعرضة التي تسعى على صعيد واسع إلى إنجاح الغزو الثقافي المهول دون أذنى مراقبة ولا حدود ولا اعتبارات ثقافية تربوية أو اجتماعية من الشعوب الأخرى المستهدفة ،وعلى كل المستويات سواء كانت تربوية أو سيكولوجية أو بيئية مما يؤثّر سلبا على مبادئ التربية الحسنة والخلق القويم خاصة في مجتمعاتنا الإسلامية مما يمسّ بالمعارف السوسيوثقافية المكونة لثوابت الأمة وخاصة مع تدني العلوم والثقافة والمعارف وانتشار الجهل والفقر وحب الدنيا. بعد هذه النبذة المختصرة في تشخيص ظاهرة الانحراف والتحسيس بقواعد الإجرام والإشارة إلى أهم دوافعه ومسبباته وصلنا إلى مرحلة الوظيفة التربوية والاشتغال على هذه القضايا المجتمعية والسلوك العام وحالة الشذوذ الذي يحتاج إلى التدقيق والتفحيص حتى يسهل التصحيح والمعالجة السلوكية، النفسية والطبية كما يجب معرفة طرق الوقاية والعلاج من هذه الأحداث الوبائية والمخاطر الاجتماعية الكبرى ، ولاسيما ظاهرة انحراف الشباب التي تعد من أخطر المعضلات التي بدأت تفتك بأسرنا وتمزق مجتمعاتنا إربا إربا والكل يتفرّج على من سيكون الدور اليوم. على كل المختصين والأطر والباحثين والأكاديمين سواء كانوا من المؤسّسات التّربوية والاجتماعية أو الدّينية أن تتصدى بتشريعات صارمة للحيلولة دون تفشي هذا المرض المجتمعي القاتل ومحاولة غلق كل الأبواب التي تؤدّي إلى بؤر الانحراف الانحلال، والعمل فرادى وجماعات ومؤسسات مدنية وحكومية لتطوير مناهج وبرامج توعوية وتعليمية وتثقيفية تربوية ملائمة . مع وضع برامج اجتماعية من أجل إصلاح ما انشقّ وانكسر وبناء نشء سوي بمساعدة مربين وكوادر تعليمية ومثقفين وجمعيات وهيئات من أجل إعادة بَثِّ الروح الإيمانية والقيّم السمحة التي كان يرتكز عليها المجتمع. على كل وسائل الإعلام بكل أنواعها أن تشمّر على ساعدها وتفتح صفحاتها وشاشاتها ومنابرها في سبيل التكامل والتآزر والعمل صفا واحدا مع غيرها على كل المستويات ومن كل الجهات لإصلاح ما يستطيعون إصلاحه. على كل المسؤولين والمختصين وباقي الفعاليات المجتمعية النشيطة ببلادنا أن يتقبلوا سياسة توزيع الأدوار وأن يخضعوا لاقتسام المسؤوليَّات على كل المستويات النفسية والاجتماعية والدراسية والمهنية والدينية والحرص على الرعاية النفسية والاجتماعية بمشاركة الأسر والمدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات النفسية والاجتماعية. على كل ضحايا الظروف الاجتماعيّة والثقافية واختلالات التوازن المحتاجين إلى الرعاية والعطف والحنان أن يتابعوا وأن يعاملوا بالحنان والرفق بدل العقوبات التأديبية الرادعة التي لم تزد الأمور إلا تعقّدا وخطورة على بقية المجتمع، على هؤلاء أن يوافقوا على عملية الانقاذ والإصلاح هذه سواء انطلاقا من وسط محيطهم الأسري بتغيير سلوكياتهم وملء فراغهم بالصحبة الصالحة وتنمية قدراتهم الجسمية والعقلية بالدروس التثقيفية القيمة، ومزاولة الأنشطة الرياضية وتلقين التربية الصحيحة للقضاء على هذه الضغوطات النفسية والاجتماعية المسببة للإنحراف.أو بإعادة تفعيل الرعاية الاجتماعية، وتأمين حالات الاكتفاء والإشباع للاحتياجات الخاصة بهم وبالمجتمع،والاعتماد على التنشئة الصحيحة لتبديل السلوك وتغيير الأخلاق. من الناحية الدينية يجب الاهتمام باختيار الزوجين لبعضهم البعض على النهج الاسلامي حتى تصلح تربية الأبناء وتواكب الركب الحضاري وتطور العلاقات البشرية والمجتمعية بعيدا عن العنف والتشدد والانحراف،لذلك حرص الإسلام على تدارك هذه العلاقة المتناقضة بين الأبناء وآبائهم وعالجها دينيا ودنيويا وبالطرق السليمة. فخصّ للوالدين مقابل تضحيتهما اللامتناهية من أجل أبنائهما الودّ والعطف والشفقة والرحمة لضمان رضاء الله وسكون جنانه،باعتبار أنه لا تستقيم حياة مسلم إلا بطاعتين:عبودية الخالق جل جلاله,والإحسان والطاعة وخفض الجناح للوالدين خوفا من الله وطاعة لمرضاته. الواجب على الآباء إصلاح النشء والسهر على تأديبه وتهذيبه ورعايته وتوجيه بالطرق الملائمة لكل حقبة عمرية ،وتلقينه التربية الصحيحة من المنزل والمدرسة بدل التوبيخ والعقوبة حتى لا يتولد جيل من القنابل الموقوتة التي تنفجر في وجه الجميع وفي أي وقت ومكان كان. فالإسلام كما يعرف الكل حثّ الآباء على القيام بمسؤوليتهم النبيلة واحترام رسالتهم المقدسة وحرص على الوازع الثقافي والاجتماعي والديني برسوخ العقيدة الإسلامية في نفسية الطفل وفرض الرقابة الأسرية ومراقبة صحبة الأبناء حتى تكون بمثابة حصانة ووقاية من أي انحراف أو شذوذ مصداقا لما جاء على لسان خير البشرية ومعلم الإنسانية محمد عليه أزكى الصلاة وأطيب السلام: "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته ". وكما قال الشاعر: وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ فِينَا *** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ قَدْ يَنْفَعُ الأَدَبُ الأَوْلاَدَ فِي صِغَرٍ*** وَلَيْسَ يَنْفَعُهُمْ مِنْ بَعْدِهِ أَدَبُ إِنَّ الغُصُونَ إِذَا عَدَّلْتَهَا اعْتَدَلَتْ *** وَلاَ يَلِينُ وَلَوْ لَيَّنْتَهُ الخَشَب ختاما: إلى أي اتجاه تدفع رياح الحضارة بسفن زمان، ونحن نيام قيام على فوهة بركان؟ إن صار أخطأنا في ثانية، لطمتنا أمواج الطوفان العاتية،أُسَرُنا لاهية ومجتمعاتنا غير مبالية. ربّاه !! اهد الآباء وأصلح على يديهم جميع الأبناء بدون استثناء ،ووفّق اللهم العاملين والغيورين الأتقياء،من هذه الأمة قبل وصول الضربة القاضية.