قد لا تكون مُصادفة أن تنطلق أولى شرارات الربيع العربي من تونس ، بالنظر لما وصل إليه وعي التّونسيين من رُقيٍّ ساهم فيه تدنّي نسب الأمية بين أوساط الشعب .فقصّ بذلك ' أميرالثوّار العرب ' (محمد البوعزيزي ) شريط التّمرّد على الظلم و الطغيان ، لتدخل البلاد عقب الحِراك الثوري السّلمي، مرحلة جديدة من الإصلاحات الدستورية الجذرية ؛ التي قادت إلى إرساء هياكل الدولة المدنية العصرية ' دستور عصري ، برلمان مُنتخب يمقراطيا ، مُؤسسات قوية ... ' وما كان ذلك التقدم اللاّفت ليحصل لولا إنجلاء غيمة بن علي الدّاكنة. لقد عاشت تونس قُبيل الثورة على صفيح ساخن ، فشلت المؤشّرات الإقتصادية و الإجتماعية الرسمية التي سعت إلى طمأنة الرأي العام المحلي و الدولي على نجاعة ولايات بن علي الرئاسية في إحتواء غضب التّونسيين الذي أشعله مسلسل التّضييق على الحريات ، وإستشراء الفساد داخل دواليب الدولة ،إضافة إلى غياب الديمقراطية الإنتخابية التي أجهز عليها نظام "حاكم قرطاج ". غير أن التونسيين قد فطنوا بدهائهم المعروف المُتوارث عن أجدادهم القرطاجيّين إلى حساسية المرحلة الإنتقالية وتداعياتها المُحتملة إن هُم أخطأوا الحسابات ، فتركوا خلافاتهم السياسية و الإيديولوجية جانبا . فتوحدت الجهود في أفق العبور بالبلد إلى برِّ الأمان والحفاظ قدر المُستطاع على مُكتسبات الثورة التي قدموا من أجلها دماء شهداءهم. فأصبحت بذلك التجربة الإنتقالية التونسية الفريدة أقرب إلى النماذج الثورية الرّائدة عالميا ، فجُنِّبت البلاد على الأقل خلال المرحلة الراهنة ويلات التطاحن الدّاخلي. وتُعدُّ تلك التجربة إذن بمثابة باكورة نُضجٍ فكري لمُجتمع أدرك مبكرا خطورة الإنسياق الأعمى وراء النزعات المصلحية الضيّقة. إلاّ أن الأمور أخذت منحى آخر في بلد مُجاور ، ففي ليبيا التي شاركت طائرات النّاتو ،إلى جانب الثّوار في حمل نَعْشِ القدافي إلى مثواه الأخير ، لم يكن قادة الغرب المتحمّسون حدّ التّهوُّرِ لفكرة إزالة القذافي دون التفكير في البديل أو على الأقل إعداده جيّدًا ، يحتسبون أن موطن ' عمر المختار ' سيتحول يوما إلى ساحة فوضى عارمة على الطّراز الإغريقي القديم عندما كان لكل مدينة نظامها السياسي الخاص ( المدينة الدولة ) ، فأصبحنا نُشاهد على قنوات " مباشرة من على ظهر الدّبابة " إقتتالاً ' طَرْوادِيًا ' حامي الوطيس ، زادته الجماعات الإسلامية المسلحة إثارةً ' هيتشكوكية ' خاصة. لقد كان ذلك السيناريو المرعب مُنتظرا في بلد كان فيه الشعب المقهور يعمل لعقود خلت بتعاليم ' الكتاب الأخضر المقدس ' ويدين بعقيدة أغرب نظام إشتراكي في العالم .فلم تُصدّق عيناه إنهيار صنم ' هُبَلْ ' . فصار الليبيون غداة الثورة أقرب إلى المهلوسين ، من شدة الصدمة ، منه إلى الوعي بجسامة المسؤوليات الجسيمة التي أفرزتها مرحلة ما بعد القدافي . ومع الأسف لم يعرف الليبيون الذي خرجوا للتعبير عن فرحتهم غداة سقوط " مُسَيْلِمة باب العزيزية "، أنهم قد إستبدلوا ' النهر الصّناعي العظيم ' ب ' الفوضى الوطنية العُظمى '، وذلك عندما تحوّل ثوار الزنتان و مصراتة إلى قراصنة يزرعون برشّاشاتهم الرُّعب وسط المدن. فسقطت ليبيا الشقيقة فريسة تجاذبت إقليمية ودولية ، لتبرز داخل ذلك ' الإشعاع الذّرّي ' الهائل شخصية عسكرية مُركّبة أقرب إلى ' الكرتونية ' منها إلى الوطنية إسمها 'خليفة'حفتر،هذه الشخصية التي تَمْتحُ من ' الأدب الديكتاتوري ' الرهيب إدّعت ( النُّبوءة ) بِمُباركة ' آلهة الحرب 'سقطت بالباراشوت على رمال ليبيا كأحد المُخلّصين الجدُدْ للبلاد من مخاب الظلاميين . إنها فعلا سُخرية القدر ، فما أشبه اليوم بالأمس ؟ فقبل عقود أُبْتُليَ الليبيون بوباء إسمه القذّافي و اليوم هاهم يُصابون بطاعون إسمه حفتر.ليُطرح مع هذا البلاء سؤال بارز : هل قدر الليبيين أن يتعايشوا مع أُخطبوط إسمه الدّكتاتورية ؟