كثيرا ما تتبجح الحكومات المخزنية المتعاقبة بشعارات رنانة في كل المحافل الوطنية والدولية، وهي شعارات لا تصمد كثيرا أمام حقائق الواقع وأحداثه المرة، وسرعان ما تنهار عند أول اختبار، ليتكشف للقاصي والداني زيفها وعورها، إذ أن التبشير بمغرب "حقوق الإنسان" و"الدستور الجديد" ما هي إلا عناوين عريضة للاستهلاك المحلي والدولي لا أكثر، وهذا ما تثبته سياسة الاعتقالات المتكررة والمطاردات الأمنية اليومية والمحاكمات الصورية كالتي حدثت مؤخرا مع الأطر العليا المرابطة بشوارع الرباط، حتى أضحت نهجا سياسيا مألوفا لدى الجميع، لدرجة أنه لم تعد عظام المعطلين المكسرة، ولا دمائهم المستنزفة تثير تعاطفا حقوقيا، بل قد لا تستحق أن تسيل مدادا لصحافة تبحث عن جديد يكسر سآمة الروتين لدى قرائها ومتصفحيها، لدرجة أن تقديم تسعة من الأطر لمحكمة الاستئناف بتهم جنائية خطيرة - لا تصلح إلا أن يتهم بها أفراد الخلايا الإرهابية – لم ير فيها صحافيونا وحقوقيونا جدة تستحق أن يلتفت إليها رغم كون الحدث سابقة خطيرة غير معهودة، فما كان يحدث سابقا وفي أخطر أحواله هو تقديمهم بتهم جنحية للمحاكم الابتدائية، ليتم الإفراج عنهم بعد ليلتين أو ثلاث من السجون، فهل يعني ذلك أن المخزن بدأ يفقد أعصابه تجاه حركة المعطلين مما يستدعي تغيير السياسة القديمة التي لم تعد ترهب أحد؟ إنه تطور خطير أشعر المعطلين والمتتبعين لهذا الملف بأنه قد بدأ يأخذ أبعادا خطيرة ودخل نفقا مظلما مما ينذر بانفلات خيوطه - التي كان متحكما فيها من قبل- من أيدي الطرفين، فلا أحد سيتكهن إذن بنتائج هذه السياسة غير المدروسة لوزارة تبحث عن هيبة ضائعة وسط ركام ومخلفات ثورات الربيع العربي المزلزلة للعروش. إن المتأمل للاعتقالات الأخيرة في صفوف المعطلين وغيرهم من الفبرارييين والمحتجين، والتي تمت أمام أنظار الجماهير الشعبية، يفهم أن المقصود هو عمومية الرسالة وعنوانها أن ما كان مسموحا به سابقا لم يعد ممكنا السماح به اليوم، فالمطلوب إذن هو الانصياع واستيعاب المتغيرات، وهذا أمر جعل البعض يتخوف من انحراف قطار الحملات الأمنية على ممتهني "التشرميل" عن سكته، ليصبح وسيلة لتأكيد استعادة الداخلية لهيبتها وقوتها، تحت شعار:" افسحوا الطريق ليمر الموكب المهيب" موكب البصري ونهجه وسياسته، بعد أن استفاق من قبره ملبيا مطلب إحدى المسيرات مؤخرا التي نادت بضرورة رجوعه لممارسة مهامه النبيلة، حتى شبه البعض هذا الأمر بمطلب السيسي - قبل شهور- من المصريين النزول للشوارع لمنحه إذنا لمواجهة الإرهاب المحتمل، معلنا بذلك بداية زمن الانقلابات، ووأد الثورات، وتحريف مسارها، وتشويه سمعتها، وإتلاف علبتها السوداء حتى لا يتذكر أحد لماذا قامت أصلا. إن فرضية تشابك الأحداث الأخيرة وترابط خيوطها بخيط ناظم يوجهها فرضية تزيد من احتمالية صحتها محاكمة المعطلين مع معتقلي تيفلت أمام قاض واحد، وفي زمن ومكان واحد، وبتهم غليظة تتشابه إلى حد كبير، مما يوحي بأن الأمر بحث عن هيبة ضائعة، على غرار ما يحدث في كثير من البلدان العربية، ولكي تضمن نتائج هذه السياسة في هذه البلدان وجب أن ترافقها حملات إعلامية تهييجية مشوهة و مشيطنة للثوار أو المحتجين على حد سواء، حتى لو كانوا مجرد معطلين بسطاء بساطة مطلبهم، فمادام العلاج مع الجميع يتطلب فرض هيبة الداخلية، فلا فرق إذن أن يخلق الإعلام صورة نمطية في الأذهان تساوي بين محترفي التشرميل والمعطلين وغيرهم من المحتجين، فقلب الحقائق وتكذيب الصادق وتصديق الكاذب حرفة قديمة يتقنها الإعلام المدفوع الأجر. إنها رسائل مشفرة لو سهل فهمها على الساسة المعارضون منهم والموالون، فإنه من المستبعد أن يستوعبها المعطلون، لا لأنهم لا يفهمون رموز السياسة وتقلباتها، ولكنهم ببساطة لا تهمهم رسائل الساسة أصلا، ولا تعنيهم، بل ليست ضمن أولوياتهم، بقدر ما يعنيهم البحث عن لقمة العيش التي أضاعها من بين أيديهم سدنة المعابد ورهبان الكنائس بسياستهم التعليمية والاقتصادية الفاشلة التي تسببت في محنتهم، ومن ثم فإن قوة الداخلية أو ضعفها سيان عندهم مادام الإشكال مشكل خبز لا إشكالية خلاف سياسي، وبذلك لن يهتم المعطلون بمخطط غسل الذاكرة والعقول من ملوثات شعارات الربيع العربي، ولن يكترثوا لإحساس الأنظمة بنشوة النصر بعد توهمها أنها قد اجتازت العاصفة بنجاح وأصبحت أكثر قوة، لأنه ببساطة لا يسلك في أذن الجائع إلا صوت يناديه بالخبز، ولهذا السبب فإن الداخلية قد أخطأت المضمون أيضا - كما أخطأت العنوان- لرسالتها التي أرادت كتابتها بدماء المعطلين الأبرياء، ما دامت لم تفهم قوله تعالى:"وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم"، ولسان المعطلين الذي يفهمونه هو الحديث عن الشغل لا الحديث عن العصي والاعتقال والسجون. وحتى وإن لم يصح ما ذهب إليه أصحاب هذا الطرح، (وصحت غيرها من الفرضيات كالتي تقول بأن المخزن يريد تسويد وجه أحد أبنائه الحاكمين المخلصين - حقوقيا كما يسوده اجتماعيا- ليس كرها فيه وإنما لشعاره الذي يرفعه وإيديولوجيته التي يعتقدها، لتكون ضربة المخزن "ضربة معلم" تجتاز المشاركين في اللعبة إلى غيرهم من الرافضين لها) فإن لم تصح تلك الفرضيات، فإن مجرد التفكير في تصفية ملف المعطلين بالطرق الأمنية سياسة خاطئة من أساسها، ذلك أن عواقبها ستكون وخيمة، ولن تقل خسارة المخزن عن خسارة الطرف الآخر، فسياسة وضع حد للتوظيف المباشر بالقوة - عوض فتح حوار حقيقي مع المعنيين بالأمر- تحت شعار ضرورة اجتياز المباريات التي تطلب من المعطلين التراجع لسنوات إلى الخلف –حتى لو حصلوا على الدكتوراه- بحثا عن شهادات سابقة بين بقايا المقررات الدراسية، وليت الأمر ينتهي عند ذلك الحد، بل الأدهى والأمر أن يطلب منهم أن يزينوا المباريات بحضورهم، وهم يعلمون جيدا من ينجح فيها. إن كل ما قلناه سابقا يعد سياسة عمياء لن تؤدي إلى نتيجة، وسيندم مهندسوها ومروجوها ومنفذوها أشد الندم، بعد ضياع خيوط التحكم في الصراع من أيدي الطرفين، ولهذا فمهما كانت الخلفيات التي تحرك هذه المواجهة فالنتيجة واحدة، فحتى لو ظن المخزن بأن جسد المعطلين ضعيف ومترهل يسهل النيل منه بالطرق الأمنية، فإن ذلك اعتقاد ووهم لا يستند إلى الفهم العميق والتحليل الدقيق، لأن لقمة المعطلين لن تكون سهلة الابتلاع كما يعتقد من يحسب الأمر حسابا سياسيا، بل ستتحول إلى غصة وشوكة في حلق من ابتلعها، وهذا لا يعني أن المعطلين يشكلون قوة تنظيمية وجماهيرية قادرة على المقاومة والانتصار بعد امتصاص الضربات، بقدر ما يعني أن سياسة المواجهة مع فئة مهمشة مقهورة ليس لديها ما تخسره ستكون مكلفة للجميع. إذ أن تخيير المعطلين بين نارين أحلاهما مر، أمر خطير سيدفعهم إلى تفضيل السجون المخزنية - حينما تقنعهم سياسة التيئيس بأن لا أمل في العيش الكريم- على سجون البطالة واستهزاء الأعداء، وشماتة الجيران، وانتظارات الأمهات والآباء، كل ذلك سيدفع باتجاه الانزلاق إلى ردود أفعال تلقائية وعفوية لن تستحضر فيها ظروف الزمان ولا المكان ولا تقلبات الأحوال، وأول هذه الردود المتوقعة قد تكون إن عميت أعين المخزن فأوحى بتغليظ الأحكام على المعتقلين التسعة، إذ من المستبعد أن ينسى المعطلون تضحيات زملائهم ورفاقهم من أجلهم بهذه السهولة، إن حدث ذلك -لا قدر الله- فأبشروا بمسلسل من الردود عنوانه التسرع والاندفاع، وكلما حدث فعل متسرع من المعطلين سيستدعي بالضرورة ردا أقسى من وزارة تبحث عن الهيبة المفقودة، وبذلك سيدخل الطرفان في مسلسل من الفعل ورد الفعل لن ينتهي إلا بعد أن يقدم الجميع حصيلة ثقيلة ماديا ومعنويا وحقوقيا قد نحتاج لسنوات طوال لمعالجة آثارها ونتائجها، وآنذاك لن يهم من انتصر في الصراع، بقدر ما سيهم هول الكارثة ومخلفات تلك المواجهة، وبذلك ستضاف تلك الجرائم إلى السجل العفن للداخلية المغرورة بانكماش المد الثوري وتراجعه، وسيصعب على الدولة المغربية تبريرها وتمريرها في المحافل الدولية بشكل من الأشكال، فهل ستستوعب السلطات المعنية خطورة إرسال الرسائل لمن لا يهمه الأمر؟ وهل ينتبه المسؤولون لخطورة سياسة قتل الأمل وتخيير المعطلين بين نارين أحلاهما مر؟.