في إطار الزيارة الأخيرة التي قام بها " دومينيك دوفليبان" لملك المغرب محمد السادس، ذاع خبر في الصحافة، كان غير متوقع،مفاده أنه بناسبة الذكرى الخمسين " للاستقلال" قبلت أخيرا فرنسا أن تعيد للمغرب مقر القنصلية الفرنسية بمراكش. هي أخبار مقتطفة ، لكن مكر الحكومة الفرنسية ظاهر للعيان ، فالأمر لا يتعلق بالاسترجاع الكلي للمعلمة التاريخية التي تشكلها دار مولاي علي بالنسبة لعاصمة الشرفاء بالجنوب، لكن فقط استرجاع المؤسسات الإدارية والحديقة( وهو فقط در الرماد في أعين المغرب) سيقال لنا " زعلى أية حال" لكن القنصل سيحافظ على مسكنه،يعني القصر، بينما الخزائن والإدارة- التي تعج كل سنة بطلبات التأشيرات- سترحل إلى منطقة جيليز.هذا الحدث، من بين أحداث كثيرة أقل رواجا في الصحافة، يمنحنا الفرصة للتفكير في ما يريده المغاربة فعلا باتفاق مع ملكهم من أجل مستقبل وطنهم وأبنائهم. إن كل زائر، وكل سائح عاش التجربة المدهشة: الكتبية " صومعة الكتبيين" المتميزة، التي تهيمن على مشهد حضري خال بالمرة من الثقافة الأدبية ( لكن، والحمد لله، فساحة جامع الفنا لازالت فضاء للثقافة الشعبية والتقليدية). أي شخص هذا، ليس عالما، لكن فقط محب للاستطلاع سيجد ما يغذي نهمه الثقافي والروحي بمراكش؟ أي مكان سيمنحه فرصة إشباع فضوله التاريخي والأدبي؟ هل وراقة الغزالي الصغيرة الموجودة في جادة باب أكناو؟ أم مكتبة حسون، القريبة من الجامعة أم مكتبة شاطر المتواجدة في نهاية شارع محمد الخامس بجيليز وهي على العموم واسعة وغنية بالكتب؟ هاهو جرد بثلاثة أسماء لكل تجارة الكتب في مراكش. ألا تخجلي أيتها المدينة العتيقة ذات السمعة العلمية، وقد كنت مزارا للعلماء والرحالة من الشرق والغرب.. هنا لا أتحدث سوى عن المكتبات لكن ما الشأن حين يتعلق الأمر بالخزانات؟ فباستثناء خزانة المعهد الفرنسي، والتي تكون غاصة يوم السبت،فالخزانات الأخرى نادرا جدا وليست في المتناول إضافة إلى أن فقرها يثير السخرية( خزانة المجلس العلمي بمراكش)،وهناك خزانات محض افتراضية ( نذكر بالطبع الخزانة البلدية، المقابلة لفندق المامونية).فالسؤال يطرح هنا بكل وضوح،إذا ما أعادت القوة الاستعمارية القديمة دار مولاي علي كلها،أن يحبس هذا المكان في مدينة مراكش على خزانة تليق بصومعة " الكتبيين وبتاريخ المغرب". يبدو أن كل شيء قد رتب، من هذا الطرف أو ذاك لحوض البحر المتوسط لكي ننسى أنه في اللحظة التي كانت فيها أوروبا ، أوروبا الأسياد،تنعم في الجهل المطبق، كان الأمراء، والأدباء العرب يمتلكون خزانات لا تخطر على بال اليوم، ففي القرن الحادي عشر كان الخليفة الفاطمي في القاهرة يملك في قصره أربعين خزانة، كل واحدة مخصصة لميدان من ميادين المعرفة( خزانة الفلسفة وعلم الفلك لوحدها تحوي 18.000 مجلد). وإبان الحروب الصليبية لما علم أمير طرابلس أن الصليبيين أحرقوا خزانته غشي عليه. إننا نتفهم ذلك: فالخزانة كانت تحوي ثلاثة ملايين كتاب. من بينها خمسون ألف مصحف شريف، وعشرون ألف تفسير،وحينما دعا أمير بخارى الأديب الصاحب بن عباد لكي يقيم في قصره،أجابه العالم الأديب، حتى أنه لو قبل الدعوة، فإنه يحتاج إلى أربعمائة جمل لنقل خزانته ( نستنتج من هذا أنه كان يملك تقريبا 400.000 مجلد).لا ينبغي الاعتقاد أن هذه الظاهرة كانت حكرا على الشرق العربي فقط،ففي سنة 1612،كان الأمير زيدان السعدي، الذي طرده من مراكش أحد مدعي المهدوية ( الفقيه الثائر بن أبي محلي)، يريد اللجوء إلى سوس عبر البحر، وحتى يتم له ذلك اكترى من أحد الفرنسيين سفينتين:إحداهما لنقل حريمه، والأخرى لشحن خزانته،لكن مجهز السفن الفرنسي لم ينجح في تسلم أجرته في الحال من لدن الأمير المخلوع،فأدار السفينة( المدعوة notre dame de la garde ) التي تحمل الكتب باتجاه فرنسا ( وبالضبط نحو مارسيليا)، لكن البحرية الملكية الإسبانية، أحاطت في عرض البحر بالسفينة( فرب مدينة سلا). وكان لديها متسع من الوقت كي تستحوذ على الثروة الهائلة والنفيسة( التي أهديت للملك فيليب الثالث)،والتي لاتزال إلى اليوم تقبع في خزانة الأسكريال باسبانيا).من أجل ذلك فدار مولاي علي ( وهو بالمناسبة أمير مثقف جمع في دار إقامته خزانة هائلة)، يجب أن تصبح في هذا المخزن الكبير للفكر الذي يصل مراكش بتاريخها الأكثر حيوية وذائع الصيت.من خلال بنية ثلاثية: خزانة عامة، خزانة للكتب النفيسة والمخطوطات القديمة التي لا يصل إليها إلا الباحثون المعترف بهم. أخيرا أن تكون مستودعا للأرشيف الذي يربط المغرب والإسلام ليس فقط بالقوة الاستعمارية القديمة، ولكن بالعالم أجمع. من المهم أن المغرب يذكر بأنه كان ولا يزال أرضا ينتخبها عدد كبير من الأجانب يحترمون ثقافته.فلما لا نتصور أن تصبح ملكا للمغرب؟ أيضا يجب على المغرب أن يكون في مستوى تأمين الأمن والتسيير والحفاظ على مكتسباته، وأنه على فرنسا، وبالرغم من دستورها الديمقراطي،فإنها قد انتهكت الاستقلال القديم للمغرب أن تؤمن أسس هذه البنية التحتية، بتوفيرها لهذه " الخزانة الوطنية" الجديدة حصة كبيرة من هذا الإرث الإسلامي( أو على الأقل نسخ مصورة لهذه المخططات والمطبوعات العربية- الإسلامية)، وبمساعدتها المغرب في تكوين جيل جديد من المختصين في المكتبات والأرشيف. فبدل التعلل بالكلمات ومخادعة المغرب،يجب على الحكومة الفرنسية أن تذكر أي افتداء قدم المغاربة من أجل الدفاع عن فرنسا (1918) وتحريرها ( إنزال Province ، وحملة إيطاليا)، وأيضا الدفاع عن مستعمراتها ( الهند الصينية)، وبدل أن تستمتع حد النخاع كبرجوازي صغير بالمقابلة التي يفرضها بلد على بلد آخر خضع له لفترة من الزمن،يجب أن تبرهن على سخائها وعظمتها. وبحس دقيق بمسؤوليتها ، ليس فقط من أجل صورة فرنسا ولا من أجل الرقي بتعليم متوسط الشباب المغربي،عليها ان تتصرف، يجب على الحكومة الفرنسية أن تعي أن كل فعل من هذا القبيل سوف يعتبر فعلا نبيلا،وفي الوقت نفسه سياسة رفيعة المستوى.ما دام الأمر يتعلق بخدمة ليس فقط الطبقات التي يقال عنها غالبا غير مثقفة في المجتمع المعاصر،ولكن أيضا النخب المتخلى عنها والمهجورة من دون تحسر عليها من أجل نزق كل ماهو تلفزي، وللطموحات التسييرية، المتعطشة للربح المحض ولنموذج أميركي ليس سوى وجه آخر جهنمي بعكس المجتمع الأخوي والمثقف الذي طالما حلم به الإسلام منذ زمن بعيد. * · ترجمنا هذا المقال باتفاق مع صاحبه الذي سلمنا المقال مخطوطا. * · ما بين المعقوفات من وضع المترجم. * · ميشيل صلاح الدين أورسيل: كاتب وروائي وشاعر ومترجم فرنسي حائز على دبلوم في العلوم السياسية( باريس)، دبلوم في العلوم الإسلامية، دكتوراه في الأدب والعلوم الإنسانية ( السوربون)، حائز على جائزة روما للأدب،غادر الجامعة الفرنسية ليعيش في المغرب،حيث يتابع إنجاز أعماله الأدبية، ويمارس التحليل النفسي والعلاج النفسي.