من لا يفتقد تلك الأصوات المنبعثة من الماضي بكلمات في طعم الحليب الدافئ السائل على فم الرضيع ، من لا يفتقد تلك الحكايات التي بطعم أول شعاع ضوء الفجر المتسلل عبر العتمة، حيث تأهل الأحلام و تمارس حقها في السكن الجميل داخل المخيلة المتيقظة في عز النوم، من لا يحس بالحاجة الى تنفس رائحة التراب و الحقول المغمورة بالندى و بشعر السنابل عبر لغة الحكاية و هو ينتقل من بلاد الى بلاد الى بلاد حتى يصل الى بلاد الأحلام حيث الأناني والجشع لا مستقبل لهما، من منا لا تعجزه الحياة بسرعتها و صخبها و يحتاج إلى محطة استراحة في فضاء الحلم فيفزع من عنف التخييل في ما يقدم من أفلام تحفل بالألم و تربي العنف و الغيرة و الحسد والمنافسة على كل شيئ.... لم تكن الجدة مجرد امرأة مسنة ذات تجربة ، كانت تقريبا مؤسسة تربوية و اجتماعية قائمة الذات ، فهي مربية و معلمة و مسلية ومساعدة اجتماعية للأسرة تساعدها عل تجاوز الكثير من الشقاق والمشاكل ، و أهم شيء تربية الأبناء على القيم الإنسانية من الاحترام و الصدق و العمل .. هي تحفظ الحكايات و الألغاز و الأمثال و الحكم و حتى وصفات الطب الشعبي ، و تمهر في فن جلب النوم بواسطة الكلام الممتع والمفيد عن طريق الحكي و القدرة على التعبير عن الحياة ، في صوتها من تموجات الجبل و النهر و البحر و السهول الممتدة إلى السماء ، هي المساعدة على تأمين حق الحلم لدى الأطفال في الوفرة والامتلاء و تنشئتهم جماعيا عبر الاعتماد على تحقيق التوازن النفسي بين الخوف و الشجاعة و بين الرغبة و الواقع ، هي المدافعة عن عالم الحق و الإنصاف و العدل بين الجنسين . و تحت أضواء الشموع الخافتة كم نام على ركبتيها من أطفال بين أغطية الصوف الباردة وحتى من جوعهم حيث أشبعهم السرد لحد تخمة الخيال ببيت من الحلوى ، كله من الحلوى ،أبوابه من الحلوى ، سقفه من الحلوى ، ومفتاحه من الحلوى ...أو بقلوش ماء و خبزة قدر السماء .. فاستسلموا لصوت الحكاية الآتي من بعيد من زمن الكان ما كان ، زمن العدل و الحق و المساواة و الجمال ، زمن الأجواد ، و المنتقل في سيولته من واد الى واد حتى جبل قاف ، و في بعض الأحيان كانت بحكم تجربتها في الشأن التربوي المباشر ، تلعب دور طبيبة نفس حيث كانت بحكاياتها تلك وبإنشادها خلال السرد ، تهدهد المخيلة و تقي الأطفال من المشاعر السيئة الناتجة عن مواد غريبة زاخرة بالتفرد و قلق الهجر ، و التي قد تؤدي إلى العصاب .. كانت الجدة تزودهم عبر لغة الرمز والتخييل بمواقف وجودية يستطيعون بواسطتها التغلب مستقبلا على مصاعب الحياة ، كما تستبعدهم من حضور المشاهد العائلية حيث يكثر القلق بين الأزواج .. و حتى عندما تنتهين من السرد تنتقل الجدات ، من الحكاية إلى الواقع بنفس الطريقة التي دخلن بها الحكاية ، بالعتبة ذاتها ، و بالتدرج نفسه و بالرفق وبالليونة نفسها ، بهدوء و تبات كما تستل الشعرة من العجين ، و كأنهن يهيئن خاتمة الحكاية ، و سادة للنوم قد تستل من تحت رؤوس الأطفال دون أن يشعروا بذلك .. بهذه القدرة على حسن التخلص تقول راوية من الراشيدية في اختتام حكايتها : خليتهم في الشر و جيت في الهنا أو تقول راوية من دكالة : سيرى احجايتى من واد لواد و أنا نبقى مع الناس لجواد أو تقول راوية من قلعة السراغنة : سيري احجايتي من ريف لريف أصبحت الجدات الآن مجرد ذكرى ، و لم يبق من تجاعيدهن الجميلة التي حاكتها الطبيعة و تجربة السنين و لم يفكرن في إزالتها يوما ،ولا من أصواتهن المليء بالحنين شيئا إلا اللمام . أصبحن يغالبن تغيرات الزمان بدون رعاية صحية أو اجتماعية شاملة، وغالبا ما هن بأمس الحاجة بعد تراخي الروابط الأسرية ، أما ما تبقى من راويات خاصة بالبادية فقد يطالبنك بدراهم هزيلة أو بشيء من الكسوة مقابل حكي بعض الشذرات من الحكايات التي احتفظت بها الذاكرة المتعبة .. و أصبح بعض النساء في سن الجدات لا يعرفن شيئا من تلك الحكايات أو الأمثال ، أصبحن بدون ثقافة و قد غسلت أذهانهن بما يشاهدنه من أفلام و مسلسلات مطولة يستمدن منها ثقافتهن الجديدة وقيمهن المعاصرة .. و نجد بعضهن يتخلين عن دور الجدة ، و يملن اكثر إلى العزلة و إلى الحياة الخاصة و المستحضرات الغير الطبيعية للتجميل غير الحناء و السواك و غيرها ..و ربما بناء حياة زوجية جديدة في هذا السن المتقدم .. انتهى عصر الجدات الحنونات و الصوت الدافئ ليحل صوت إقريضن ، صوت الربح و المادة ، و دبر راسك و عوم في بحرك ، وتفكك الأسر و تفضيل العيش الفردي على العيش الجماعي وتعويض الأطفال بالحيوانات الأليفة ..كالقطط و الكلاب و حتى الأفاعي كما نجد في البلدان المتقدمة .. ما زالت الحاجة الى الجدات و ربما ستصير أكثر إلحاحا ، صورة الجدة كمرأة طيبة تحنو على الأطفال و تقدم لهم شهد الكلام وتغرق مخيلتهم في جمالية السرد و التخييل و الإنشاد و التهلال ، وتعيد تنظيم العالم حيث يجازى الخير و يعاقب المسيء ، حيث يجد الأطفال طريقهم وسط غابة الحياة بخيط دقيق من النخالة أو حبات من الفول .. لا وقت الآن للحكاية فهي لا تساعد على التقدم كما يدعي البعض ، فقد التهمتها الوسائل العصرية و ليس الصورة لأنها مليئة بالصور الجميلة في وقت فقط هو للأرصدة و الاسمنت ..و الاستهلاك والاعتناء بالمظاهر الخارجية ، بينما المعاناة النفسية في أوجها والإحباط و كل مظاهر الفصام .. و استحضار الكلام الشعبي هنا وارد حيث تورد الذاكرة الشعبية هذه الأبيات في ذم الاعتناء فقط بما هو مادي و إهمال الجوانب الثقافية والروحية : ابني و علي و سير و خلي نهار تموت يولى بوعميرة قايد و موكة خليفة و برارج يعمل فيها الاستراحة لا وقت لاجتماعات العائلة ، هو زمن السرعة إذن ، جري علي نجري عليك ، زمن الفتنة بمختلف أشكالها ، تشجيع المظاهر على حساب الجوهر ، و تنمية ثقافة الاستهلاك و التقليد .. الحاجة إلى صوت الجدة ملح عند الأسر و تقوية الروابط الاجتماعية التي فككها الاقتصاد النقدي عبر السنين من الاكتساح دون الأخذ بالاعتبار الإبقاء على ما هو إيجابي في هذه التقاليد ، دون أن يعطينا بديلا لها غير مؤسسة هجينة هي مؤسسة الخادمات تلك النساء البئيسات و المستغلات في سن مبكر عوض أن يستفدن من كرسي المدرسة .. أو كريشات قد تكون في بعض الأحيان عبارة عن غيثوهات للأطفال ، و ما ذا لو قمنا بتكوين الجدات من جديد على فن الحكاية والتربية بواسطتها ، ألن يكن مساعدات اجتماعيات جيدات ،هل علينا منذ الآن أن نفكر في استئجار جدات أو استيرادهن من بلد آخر ، لتربية أطفالنا بعد أن تعسر علينا القيام بهذه الوظيفة وحدنا ، و ماذا لو أقمنا سباقا وطنيا للجدات في فن الحكاية ، ألن يكون ذلك رائعا ربما أفضل للمجتمع من تجربة القلم الذهبي ، أم ستظل الجدات مهمشات كما صوت الحكاية ...