هل نملك حركة نقدية متواصلة؟ ! سؤال يلح عليّ منذ زمن بعيد، لذلك ارتأيت أن أثيره هنا علناً لعلّي أجد الإجابة عنه. ويستمد هذا السؤال شرعيته من كوننا نرى اليوم غزارة في الإنتاج الأدبي محلياً وقلّة في النقد الذي يتابع هذا الإنتاج ويفسره ويقومه بالمعنيين، حتى اختلط الغث بالثمين وصار يتعذر علينا معرفة هل أدبنا في تطور أم في تراجع أم أنّه يراوح مكانه؟ ! بداية أقول : إنّ المتتبع لحركتنا الأدبية يلاحظ وبيسر أنّ نقدنا يعلو ويهبط بمعنى أنّه في مدّ وجزر، أي أنّه موسمي، يكثر حيناً ويقل حيناً آخر، حتى تكاد تمر شهور عديدة دون أن نقرأ عملاً نقدياً. وحين أقول عملاً نقدياً أعني بذلك عملاً نقدياً جاداً لا تلك المقالات السطحية التي تحاول استقراء بعض ما ينشر بغية التقرب من الكاتب أو التربيت على كتفه مجاملة. وكون حركتنا النقدية موسمية يجعلنا نقول بطبيعة الحال أنّها أيضاً مزاجية أو انتقائية. بمعنى أنّ الناقد يقرب هذا العمل دون الآخر وفقاً لمزاجه، وهذا مشروع إذ أن الانتقائية في النقد شيء ضروري. فالناقد مهما تفرغ للكتابة لن يكون بإمكانه أن يُتابع كل ما يُنشر من جهة، ومن جهة أخرى للناقد مزاجه الخاص كما للمبدع، حيث يدفعه هذا المزاج للكتابة عن عمل ما، ويرده أو يمنعه عن عمل آخر. السؤال الذي يطرح بعد هذا الحديث، لماذا لا نملك حركة نقدية متواصلة، هل القضية تتعلّق بعدم وجود نقاد لدينا؟ أم أنّ لها أسباب أخرى؟ ! في الواقع نحن نملك عدداً من النقاد، صحيح أنّ هذا العدد قليل لغاية الآن، ولكنّه يستطيع أن يسد الفراغ، إذا واصل هؤلاء النقاد كتاباتهم. إذن المشكلة لا تكمن في عدم وجود نقاد بل في أسباب أخرى. السبب الأول في رأيي يكمن في طبيعة العمل النقدي ومتطلباته، وذلك لأنّ النقد في أدّق معانيه هو فن دراسة الأساليب وتمييزها، والمقصود دراسة منحى الكاتب العام وطريقته في التأليف والتعبير والتفكير والإحساس على حد سواء. وبناء عليه يصبح أساس النقد الأدبي التجربة الشخصية، لذلك فكل نقد أدبي لابد له أن يبدأ بالتأثر، وذلك لأنّنا لا نستغني عن الذوق الشخصي والتجربة المباشرة لإدراك حقيقة ما. ولكن الذوق وسيلة الإدراك ليس وسيلة للمعرفة وذلك لأنّه ملك شخصي، بينما المعرفة ملك شائع. والملكة التي يستحيل بها الذوق معرفة هي ملكة التفكير إذ به ندعم الذوق وننقله من خاص إلى عام وللتفكير عدّة مصادر. مع هذا الكلام تصبح عملية النقد عملية صعبة وذلك لأنّها تتطلب جهداً كبيراً ومعرفة ودراسة وثقافة واسعة، فحتى يستطيع الناقد أن يقدم عملاً نقديا جاداً، عليه أن يتسلّح قبل ذلك بجملة من الأمور، أهمها : أن يفهم نظرية الأدب من حيث طبيعته الخاصة وعلاقته العامة بالحياة، وأن يُحيط بالتيارات الفكرية والنواحي الفنية التي أسفرت عن تطبيق النظرية الأدبية سواء منها ما يخص الأجناس الأدبية أو الصياغة أو غاية الأدب بوصفه نشاطاً يسهم في إزجاء الحلول لمشكلة الإنسان، وأن يفهم ويدرس علم الجمال والأدب العالمي والمقارن، وكذلك أن يفهم أصول المذاهب الأدبية كي يكون حكمه نافذاً وصحيحاً، وأن يستعين أسباب الثقافة التي تمكنه من تفسير العمل الأدبي وتقديمه للقارئ ليفهمه، وهذه الثقافة تتوزع بين التاريخ والفلسفة والاجتماع والاقتصاد وعلم النفس. أن يكون موضوعياً. بمعنى إذا مال إلى مذهب فكري أو سياسي أو طائفي، فلا بد أن يصدر حكمه عن حياد كامل. هذه هي الأساسيات التي يجب على الناقد الاهتمام بها ودراستها ومعرفتها معرفة حقيقية دقيقة كي يستطيع أن يكون ناجحاً وجاداً، وهي كما تشي ليست سهلة المنال، بل إنّها أساسيات صعبة تتطلب العمل الجاد والتضحية والتعب وإعمال الفكر. لذلك قلّة هم النقاد الذين يصمدون أمامها، وذلك يعود إلى كونهم عاملين في حقول أخرى وليسوا متفرغين للنقد، وما النقد عندهم سوى هواية، بمعنى أنّه ليس احترافاً. من هنا نجد أنّ الإنتاج الأدبي يكثر والنقد يقل، لأنّ عدد النقاد لم يزدد بينما ازداد عدد المبدعين، ومن هنا أيضاً نجد الركود في الحركة النقدية والموسمية فيها، لأنّ الناقد كي يكتب مقالته النقدية يحتاج إلى وقت كبير، إلى فراغ، كي يستطيع أن يركز ذهنه بغية الإلمام بالعمل المنقود من جميع جوانبه وروابطه وعلائقه. سبب آخر في رأيي له علاقة في ركود حركتنا النقدية وموسميتها هو القضية الشخصية، وأعني بذلك العلاقة الاجتماعية الشخصية التي تربط النقاد بالأدباء، فنحن رغم كل شيء نعيش في مجتمع صغير، حيث الواحد منا يعرف الآخرين معرفة قوية. هذه العلاقات في أحايين كثيرة تشكل عائقاً أمام العمل النقدي الصريح بحيث أنّها تقرر كثيراً في النظرة إلى العمل الأدبي، وهكذا تبتعد الموضوعية عن نقدنا. وإذا أضفنا إلى ذلك العلاقات الانتمائية الأخرى كالحزبية مثلاً، نجد أنّ المشكلة تتعقد أكثر. وكل ذلك يمس بمستوى النقد والإبداع في آن واحد. وكي يتجنب الناقد مثل هذه الإشكاليات نراه يبتعد عن النقد أو نراه يساير المبدع دون أن يصارح وذلك حرصًا على العلاقة بينهما. والقضية الأخيرة، بل الأهم والتي تؤثر أيضاً على حركتنا النقدية، هي قضية المبدعين أنفسهم. للموضوعية أقول : يصيب المبدعون في حقيقة قلّة النقد، ولكنّهم يبتعدون عن الحقيقة حين يتهمون النقاد بتجاهل أعمالهم، أو بتفضيل عمل على آخر، على المبدع أن يعرف أنّ نقادنا ليسوا متفرغين، كما أنّ لهم حق الانتقائية، لكن هذه الانتقائية لا تعني أن يسقط المبدع فشله أو عدم فشله أو عدم جذب القراء إلى أدبه على الناقد. فالمبدع الحق هو الذي يطور إبداعه ولا يركن إلى ناقد ما كي يشهره. المبدع الحق يعرف أنّ طريق الإبداع شائكة شاقة في آن، وعليه أن يتحلّى بالصبر وأن يثابر كما عليه أن يعرف أيضاً أنّه مهما كان الناقد كبيراً وذا شهرة فلن يجعل من أدبه سائغاً طالما أنّ هذا الأدب يفتقر إلى المقومات الأساسية. عليه أن يُدرك أنّه لن ينال الشهرة والنجاح إذا حاول اختصار الطريق أو الالتفاف عليه أو إذا قفز عن جرن التعميد بالتجارب. وللأسف أقول أنّ مبدعينا اليوم يُحاولون الوصول إلى أعلى السلم دفعة واحدة. دون أن يتسلقوه درجة درجة. فكما أنّ متطلبات العمل النقدي صعبة كذلك هو الإبداع، فعلى المبدع أن يقرأ ويُجرّب كي يُطوّر نفسه تدريجياً. ولكن أين هذا الأمر من معظم مبدعينا؟ ! إذا فحصنا الأمر بجدية نجد أنّ الناقد إذا تطرق إلى عمل إبداعي معين لأديب معين وبكل جدية لا يجد ما يقوله عن عمله الثاني وذلك لأنّه يخلو من كل جديد أو تجديد فيهمله ويبتعد عنه خشية التكرار. وإذا أضفنا الحساسية المفرطة التي يتمتع بها مبدعونا تزداد المشكلة تعقيداً. فمن المعروف للجميع أنّ أدباءنا في غالبيتهم لا يتقبلون النقد الجريء والصريح، والجاد، بل يؤثرون عليه المديح والاستحسان. نراهم يفضلون المسايرة والمداهنة على نقد يشير إلى العيوب ويؤشر على النواقص. هذه الحساسية المفرطة تضر بالحركة الأدبية وتجعلها تراوح مكانها. إذا كيف لهذا الأديب أن يعرف أخطاءه وأن يردمها في المستقبل، طالما أنّه لا يقبل الإشارة إليها. إضافة إلى ما ذكر يشهد الكثير على أنّ عدداً كبيراً من مبدعينا حين يقرأ نقداً سلبياً لإنتاجه يغتاظ ويلعن ويشتم الناقد ويتهمه بالسخف والضحالة والسطحية وعدم الفهم. في حين إذا تمعنا في هذا النقد نجد أنّه لا يجانب الحقيقة. فكم من مرّة شكا فيها ناقد من معاملة أديب ما. كان قد انتقد عمله، لدرجة أنّ هذا الأديب قطع علاقته معه بالمرة. حدثني أحد نقادنا أنّ صديقاً حميماً له من الكتاب المعروفين، كان قد أصدر مجموعة قصصية ورجاه الكتابة عنها، وقد حاول هذا الناقد المسكين التنصل بالكثير من الحيل، ولكن دون جدوى حتى اضطر أخيراً للكتابة تجنباً للإلحاح وكان قد أشار في مقالته للإيجابيات والسلبيات، ولكن هذا الأديب بعد أن قرأ المقالة اتخذ موقفاُ عدائياً تشهيرياً ضد الناقد. إنّها حقيقة تشهد على كم نحن بحاجة إلى تطوير أنفسنا، وتقبل التوجيه والنقد. كم نحن بحاجة إلى الابتعاد عن النرجسية، فكلنا يخطىء ولا يمكن لعمل أدبي مهما كان مبدعه عظيماً أن يصل إلى الكمال. إنّها قضية مقلقة تجعل الناقد وحرصاً على علاقته بالآخرين وعلى نفسه أحياناً الابتعاد عن هذا الهم النقد وهكذا نخسر الكثير. إنّ صعوبة العمل النقدي والعلاقات الشخصية وعدم تقبل أدبائنا للنقد عوامل في رأيي أساسية أدّت وما زالت إلى ركود حركتنا النقدية كما أدّت ولا تزال إلى جعلها موسمية، ومن السذاجة القول : كي تصبح لدينا حركة نقدية متواصلة جادة علينا الابتعاد عن كل ذلك. أخيراً آمل أن يكون هذا الركود الذي نشهده اليوم ركوداً آنياً من قبيل استراحة المحارب، حيث يتيح للنقاد والأدباء على حد سواء النظر والتفكير من جديد في مجمل حركتنا الأدبية وفي مستواها ومستقبلها، بغية الانطلاق بسرعة وبزخم. وهمسة أخيرة في أذن نقادنا : عليكم أن تعرفوا أنّ ما تقومون به من أهم بكثير من هذه العلاقة أو تلك، إذ إنّكم بعملكم النقدي تؤرخون لمرحلة هامة من مراحل أدبنا. لذلك عليكم أن تتجاوزوا الحساسيات، عليكم أن تقولوا كلمتكم بشجاعة وبصراحة وبجرأة، ولكن بموضوعية، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يبقى للتاريخ أمّا الأشياء الأخرى فتذهب هباء.