لطالما اعتبرت الرقص فنا نسويا، لذلك لم أرقص، لم أرقص أبدا حمْداً لله على أن خلقني ذكراً منزها عن الأنوثة. ولقد كنت في شبابي أحتقر أي رجل يأتي هذا الفعل الشنيع، فسيان لدي أن يرقص أو أن يضع أحمر شفاه. أما إذا كنت أنا شخصيا عرضة لدعوة رقص، فلم أكن أتورع عن الاعتذار في لطف شديد الفظاظة.أما كيف تم التطبيع بيني وبين الرقص، هذا الفن الذي يؤاخي بين العمق والسمو، فالفضل يعود إلى زوربا. فقد علمني هذا الرجل العظيم أن الجسد، في البدء، كان كله يتكلم ثم بدأ الخرس يدب فيه حتى لم يبق ناطقا منه سوى اللسان. وحين شاهدت الفيلم المأخوذ عن الرواية، حيث يرقص الشيخ زوربا رقصته الشهيرة،أيقنت أن روحي تنوء بجسد أخرس.لكن، هل كانت روحي عمياء فلم أنتبه إلى أن الكون مصاب بنزلة رقص مزمن؟ فالأعشاب ترقص على هسيس الهواء، والأشجار والأسماك والطيور والزواحف ترقص، والفراشات ترقص حول الزهر والضوء، والأمواج ترقص، والصخور في باطن الأرض ترقص، والنحل يرقص حول الرحيق، والأجرام ترقص، والأحصنة ترقص على طبول النصر ودفوف الأعراس، والأرض ترقص رقصتها المجوسية حول نار الشمس... كل شيء يرقص رقصا بطيئا أو سريعا، هادئا أو صاخبا... والإنسان يتعلم. منذ رقصته الأولى حول دماء الطريدة وهو يتعلم فنون الرقص من الكائنات والأشياء. وكلما تعلم رقصة أعطاها اسما واختار لها لباسا مناسبا وأجواء تليق بها، حتى صار للرقص أساتذة، معاهد، أزياء، مصممون، حلبات، موسيقى وأضواء... وصار الإنسان راقصا من أعلى الرأس،حيث الشعور التي تتمايل على مختلف النغمات،حتى أخمص القدمين ،حيث الكعوب التي تضبط الإيقاع.وإذا كان الباليه مستلهما من الفراشات، والتيك تونيك من تكتونية الصفائح، ورقص لاعبي كرة القدم، مع ما يرافقه من طبول وأهازيج في المدرجات، يذكر باحتفالات النصر في الحروب... فإن الرقص البدائي الذي يواكب الذبائح إلى الأضرحة ليس سوى النسخة الحديثة من رقص الإنسان الأول عقب إردائه للوحش. أما رقصة عاشقين على موسيقى هادئة، حيث كف تهمس للكتف والأخرى توشوش الخصر، وحيث الصدر يبث الصدر ما في الصدر، فيما الأنفاس خيوط لا مرئية تخيط الروح إلى الروح.. فإنها، لعمري، الشهادة بأن الإنسان ليس مفردا: الإنسان مثنى، مفرد بصيغة المثنى.من الرقص ما يحتاج من الجسد أن يتخلص من بعضه، فهو يقوم على ما تؤديه المفاصل من تعابير، وليس على ما تثيره النتوءات والاستدارات من استهامات. ومنه ما تحتاج معه النساء إلى كل بلاغة اللحم سافراً من خلال فتحات الثوب أو متأهبا تحته للانقضاض على شراسة الغرائز. ففي الرقص الشرقي ( ... ومازال الرجل الشرقي يستوثر فراشه )، بعض الحركات استعارات تضرم الشبق في المعنى، وبعض الاهتزازات جناس وطباق وسجع والتفات... على أن عبقرية الجسد تتجلى، كأبهى ما تفعل، في الرقص الإيقاعي على الجليد، حيث الراقص والراقصة يمجدان الجنس البشري بلوحات تفيض روعة عن أي إطار.ولئن كان للرقص مدارس تعلمه ومناهج تؤطره وحلبات تعرضه... فإن ثمة رقصا فطريا ( حتى لا أقول عشوائيا ) يمارسه أصحابه على الإيقاعات والأنغام والأصوات... ولقد حدث أن حضرت عرسا أحيته فرقة موسيقية تغني كل شيء. أذكر : نهضت امرأة من الحضور وتقدمت إلى وسط قاعة الحفل، وجعلت ترقص على الشرقي والغربي والشعبي وعلى رنين الكؤوس وضحكات المدعوين... حتى خيل لي أنها تستطيع الرقص على نشرة الطقس وأصوات الباعة المتجولين. أذكر : كانت امرأة بجسد ثرثار ورقص على عواهنه.ليس الرقص، عموما، سوى أصداء فصيحة لما يصدر عن الوجدان من أصوات. فحركات الجسد هي التعبير المرئي عن اهتزازات الفرح والانتصار والنشوة والحزن واللوعة... الروح تُعجم والجسد يُعرب. ولقد ظل الجسد ترجماناً حتى بعد أن صار للروح لسان فصيح : الموسيقى.