لم يعد "حجاب الموضة" يثير الجدل كما كان، ولم يعد مزج الشابات بين الحجاب، بدلالته الدينية، والألبسة الضيقة موضع نقاش. المثير، في الآونة الأخيرة، تردد محجبات على أمكنة تقدم فيها الخمور والشيشة، وتعاطيهن لممارسات تصنف في خانة "الفساد". فيلم "حجاب الحب"، لمخرجه عزيز السالمي، الذي تدور أحداثه حول فتاة تضع الحجاب وتقيم علاقة غرامية مع شاب يرفض أن يتزوجها بعد أن تحمل منه، حاول مناقشة الظاهرة. لكنه لاقى انتقادات واسعة، خصوصا من الإسلاميين. مشهد المحجبات وسط دخان الشيشة، وأضواء العلب الليلية، لم يألفه الكثير من المغاربة. بعضهم، ممن تحدثت إليهم الجريدة ،لم يتردد في رفض الممارسات والتأكيد على أنها تسيء إلى الحجاب. مقابل ذلك ترفض المحجبات ربط الحجاب بالجانب الديني فقط، ويبررن ارتداءه بغايات أخرى، كالزينة والبحث عن الاحترام والاهتمام، وكذا التزاما بتقاليد أسرهن. في هذا الملف نفتح موضوع "حجاب الموضة"، ونرصد مشاهد لمحجبات في حانات ومقاهي للشيشة، وتتحدث إلى باحثين. الإثارة، الفتنة، عناصر تجمع بين ظاهرة "حجاب الموضة" الذي انتشر أخيرا في أوساط المغربيات. حجاب مرتبط في غالبيته بالقنوات الفضائية، أعيد استنساخه من تصاميم أزياء مغنيات أو ممثلات أو مذيعات شرقيات (حنان ترك، سهير رمزي، خديجة بن قنة) ممن اعتزلن الفن أو بقين في عملهن وارتدين حجابا لا يخلو من إثارة. وفيما كان الحجاب سابقا يرتبط بدلالته الدينية والأخلاقية، اليوم لا يوحي بالالتزام الديني بقدر ما يرتبط بالقيمة الجمالية. إنه حجاب الموضة والفتنة والإثارة بامتياز، خصوصا حين ترتاد محجبات أماكن كانت إلى وقت قريب حكرا على الرجال والمتبرجات. حجاب وخمر وسط الصخب في إحدى حانات شارع الزرقطوني بالدارالبيضاء، استطاعت فتاة أن تشد انتباه الجميع بالرغم من زيها الذي يحجب تفاصيل جسدها، لتخطف لقب نجمة الليلة بامتياز، رغم أن الكثيرات لم يدخرن جهدا في إبراز تضاريس أجسامهن ومفاتنهن. شابة في العشرينات، متوسطة الجمال، لم تلجأ إلى الماكياج والأزياء الكاشفة، وحدها قطعة قماش فستقية، موضوعة بعناية على رأسها، وحلي تقليدية من الفضة رصعت صدرها المستور، توجتها "ملكة" ومحور حديث الكثيرين من مرتادي الحانة، الذين وجدوا أنفسهم، مكرهين، يفتون في الدين وهم سكارى. بالرغم من تلصص أعين الجميع، تقف إلى طاولة البلياردو برفقة صديقها، غير مبالية. تداعبه بغنج ظاهر يثير استياء العديدين. أحد مرتادي الحانة لم يخف حنقه من المشهد، إذ يعتبر الحجاب رمزا للعفة والطهارة، ف"إما أن تحترمه أو ألا تضعه"، يصرخ محاولا إسماع صوته للجميع. فتاة محجبة تحتسي الجعة قبل أن تنتقل إلى النبيذ وسط قهقهات تتبادلها ورفيقها، "مشهد لم يعتده الكثيرون"، يقول ياسين، أحد العاملين بالحانة، مشيرا، في حديث معنا ،إلى أنها ليست الأولى من نوعها، فهناك "فتيات محجبات يزرن الحانة بين الفينة والأخرى"، قبل أن يستدرك: "لقد انتقلت عدوى مقاهي الشيشة، ومعها المحجبات، إلى الحانات". نقاش وشيشة مقاهي الشيشة، وبخلاف الحانات والعلب الليلية، تشهد تردد وفود من "المحجبات" دون أن تثير انتباه العديد من عشاق "المعسل". سعيد، مدير أحد المقاهي وسط الدارالبيضاء، قال :" إن المقاهي الشيشة عرفت في البداية تردد فتيات يرتدين العباية الخليجية، قبل أن تتوافد عليها المحجبات". ويؤكد سعيد، الذي سبق أن اشتغل نادلا بعدد من المقاهي والحانات، أن مشهد المحجبات في مقاهي الشيشة لا يثير الاستغراب كثيرا، كما هو الشأن في الحانات والمراقص الليلية. مريم، طالبة جاءت برفقة زميلاتها لتدخين الشيشة، لا تجد أي حرج في الدخول إلى المقهى وهي محجبة. في حديثها إلى "مغرب اليوم" قالت إن الحجاب "ليس دليلا على العفة كما يتصور الكثيرون، فمحجبات كثيرات يقدمن على ما تستحي المتبرجات فعله". وعن وضعها للحجاب، توضح مازحة: "أنا قرعة (بدون شعر)"، قبل أن تستدرك في القول إن الحجاب بالنسبة إليها ليس سوى "زينة"، خصوصا "أنني أتفنن في اختيار الألوان وتناسقها مع باقي ملابسي". وإذا كانت مريم لا ترى أي تناقض بين ارتداء الحجاب وتدخين الشيشة، ترى زميلتها أن الأمر يسيء إلى الحجاب، الذي يبقى له طابع ديني وأخلاقي رغم التطورات التي عرفها شكله وتعدد أنواعه. دردشتنا مع مريم وزميلتها لم تدم طويلا، إذ بمجرد دخول شابتين، إحداهن ترتدي "عباية" خليجية، والأخرى حجابا مع سروال جينز يبرز مفاتنها، ختمت بتأكيد "نظريتها" بالقول: "زمن الحجاب كمرادف للعفة والالتزام قد ولى". في مقصف الجامعة على كورنيش الدارالبيضاء، كما في جامعات المدينة، فتيات محجبات لا يترددن في معانقة زملائهن والاحتكاك بهم. تصرفاتهن توحي منذ الوهلة الأولى بأن ارتداءهن للحجاب ليس بدوافع دينية. المكان: مقصف كلية الحقوق عين الشق بالبيضاء، طالبة ترتدي حجابا ورديا مرصعا بإكسسورات "ذهبية" وسروال جينز أبيض لصيقا، تلتف برفقة زملائها حول طاولة تدور فوقها جولة من لعب الورق (الرامي)، بين الفينة والأخرى تعانق زملاءها، دون أن يثير المشهد استغراب باقي الطلبة. الحسين، عامل بالشركة التي تتولى إدارة المقصف، يقول إن الأمر أصبح بديهيا ولم يعد محط استغراب، "وحدهم الطلبة المنتمون إلى بعض الفصائل الطلابية، التي مازالت تنشط داخل الحرم الجامعي، يرفضون مثل هذا السلوك الصادر عن المحجبات أو المتبرجات، لكن تراجع تأثيرها، داخل ساحة الكلية، فتح المجال أكثر لمثل هذه التصرفات". ويضيف الحسين أن عدد المحجبات شهد زيادة ملحوظة، وضمنهن من يتعاطين التدخين داخل المقصف، وأخريات يفضلن الاختفاء عن أعين الطلبة للاستمتاع بالسجائر بهدوء. حنان: حجابي للزينة متطلبة، تعشق العلامات العالمية وسهرات نهاية الأسبوع. تهوى ارتياد فنادق ومطاعم مصنفة، مُكلفة إلى حد لا يكفي مدخولها، من راتب شهري في إحدى الشركات الأمريكية، لتلبية حاجياتها و"نزواتها"، فكان الحل عمل ب"نصف دوام" أغلبه نهاية الأسبوع. أمثال حنان كثيرات. لكنها تختلف عنهن في شيء واحد يجعلها فريدة داخل الحانات التي ترتادها. ترتدي حجابا تخفي به شعرها الأسود الداكن كما بدا من خصلة على جبينها. تقول حنان: "ارتديت الحجاب وأنا في الرابعة عشرة، كما هو شأن أخواتي"، وتضيف: "لم أنزعه أبدا. تزوجت وأنا محجبة وطلقت وأنا محجبة، وأحضر سهرات وحفلات، كما أواعد رجالا. أنا سعيدة بمظهري ولا أفكر في تغييره". تؤكد لنا أن فترة دراستها الجامعية كانت منعطفا في مسارها. تعرفت ابنة البادية على رفيقات لها فتحن عينيها على محلات الماركات العالمية، وأروقة العاصمة الاقتصادية، من ملابس وعطور لم تحلم يوما بامتلاكها. بالرغم من إغراءات هدايا رفاق زميلاتها "المعجبين"، لم تَنسق وراءها، لتتزوج وتقطع أواصر صداقات نسجتها طيلة أربع سنوات بالحرم الجامعي. لكن فشل تجربة الزواج، الذي لم يدم أكثر من سنة، دفعها إلى البحث عن فرصة عمل قادتها إلى أحد مراكز الاتصال، لتبدأ من جديد في نسج علاقات لا تختلف كثيرا عن تلك التي عاشتها أيام الدراسة. الاستقلال المالي والحياة المهنية الجديدة والسهرات، التي تنظمها شركة الاتصالات التي تعمل بها، ستفتح أمامها آفاقا رحبة لاكتشاف عوالم جديدة، برفقة حجابها الدائم، كما ستجد نفسها بين أحضان واقع طالما سمعت عنه من رفيقاتها بالكلية. مع توالي السهرات والحفلات أصبحت حنان، التي تسكن بمفردها، "مدمنة" على الخروج. وتشير إلى أنه يصعب عليها قضاء عطلة نهاية الأسبوع بالبيت أو الاكتفاء بالخروج لاقتناء حاجيتها، "لأن كلفة سهرات نهاية الأسبوع بأماكن محترمة تفوق قدراتي المالية، أضطر إلى مرافقة بعض زملائي في العمل أو بعضا من الذين تعرفت عليهم خلال سهرات سابقة، وكثيرا ما أتلقى دعوات للسهر". ليست مدمنة على معاقرة الخمر ولا التدخين، كما تقول، لكنها لا تتردد في تناولها عندما يتطلب الأمر ذلك. عما إذا كان الحجاب يمثل عائقا بالنسبة إليها، أجابت: "بالتأكيد لا، هو قيمة مضافة تميزني عن باقي النساء الحاضرات، وتجعلني أحظى باهتمام الجميع، واحترامهم في أحايين كثيرة". أما عن الاتهام بإساءتها للحجاب ودلالته الدينية، فتؤكد أنها تضعه للزينة فقط، بعد أن وضعته أول مرة إرضاء لأسرتها. وبخلاف العديدات، ممن يمتهن الدعارة لضمان لقمة العيش، أو بحجة إعالة أب مريض ومساعدة أخ يدرس، ترفض حنان كل هذه الحجج والمزاعم، وتؤكد أن كل ما تطلبه هو أن تعيش حياتها لحظة بلحظة، مستمتعة على سجيتها دون حجاب، كما خصلة شعرها الداكنة المترنحة على جبينها. حجاب الفقهاء في عدد من الأماكن والساحات العمومية، وبعيدا عن فضاءات الشيشة وتقديم الخمور، فتيات يرتدين سراويل ضيقة وتنورات حد الركبة، دون أن يكشفن عن رؤوسهن، بعضهن فقط يطلقن العنان لخصلات من شعرهن. وإذا كان جمهور الفقهاء يؤكد ضرورة ألا يكون الحجاب "واصفا ولا كاشفا ولا شفافا، وأن لا يكون زينة في نفسه"، فإن الحجاب تحول إلى موضة وصار البعض يتحدث عن "بيزنس الحجاب". محلات تجارية بأرقى الأحياء والأسواق الشعبية صارت مختصة في "اللباس الإسلامي"، تقدم آخر الصيحات من الأقمشة والعبايات، وموديلات لمختلف الفئات العمرية. وبالرغم من فتاوى عدد من العلماء ببطلانه، ووصفه ب"حجاب التبرج"، إلا أن تأثيره فتن عقول النساء وسحر قلوب الفتيات، ليصير قطعة من أجسادهن، فهو يضمن للمرأة أنوثتها، ويجعلها محط اهتمام واحترام في نفس الوقت، كما يضمن لصاحبته، أو يوهمها، أنها الأصلح للزواج في نظر الرجل المغربي. أسباب أخرى، استقنها، جعلت هذا النوع من الحجاب هو المفضل لدى العديد من الفتيات، فهو يوجد نوعا من الاطمئنان عند المرأة المسلمة التي تعتبره لزاما، وتعتبر التبرج حراما، وفي الوقت ذاته يعفيها من التكاليف اليومية المرتبطة بتصفيف الشعر وحمل الإكسسوارات. هذا الحجاب يخفي مفاتن المرأة، لكنه يبرز بالمقابل جمالها "الغامض"، ويجعل الاقتراب منها أمنية الرجال. "حجاب الموضة" تعبير ثقافي فيما يرى عبد الباري الزمزمي، رئيس الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في فقه النوازل، أن ارتياد عدد من المحجبات فضاءات تقدم فيها الخمور والشيشة إساءة إلى المحجبة نفسها، وإلى الدين الإسلامي. يؤكد محمد رضوان أن بروز هذه الظاهرة مرتبط بالتحول الثقافي الذي يشهده المجتمع المغربي في تصوره للمرأة وفاعليتها داخل المجتمع، سواء كانت محجبة أم لا، مشيرا إلى أن اقتحام المرأة للأمكنة العامة هو من ثمار هذا التحول. ويضيف أن هذه الأمكنة، ولفترة طويلة، ظلت ذكورية بامتياز، و"المرأة التي كانت ترتادها في مغرب السبعينات والثمانينات كانت بالضرورة تصنف في خانة المنفلتة ثقافيا والمخلة أخلاقيا". لكن التحول الثقافي العميق الذي شهده المجتمع المغربي في العقدين الأخيرين، تحت تأثير القيم الغربية المتدفقة، بفعل السيولة الإعلامية التي أتاحتها وسائل الإعلام، وسهولة التواصل الثقافي المباشر مع الغرب، يقول فاضل ر ضوان، أثر في البنية الذهنية السائدة في اتجاه التطبيع النسبي مع هذه المظاهر. وإذا كانت بعض المحجبات يرفضن ربط الحجاب بالجانب الديني فقط، ويبتدعن له غايات أخرى يوضع لأجلها، كالزينة والبحث عن الاحترام والاهتمام، وفي أحيان أخرى ارتداؤه التزاما بتقاليد أسرهن وذويهن. يؤكد محمد فاضل رضوان أن "تصور المجتمع للحجاب كفريضة دينية يضع صاحبته في عمق الممارسة الدينية بشكل عام، فالمجتمع قد يتسامح مع غير المتحجبات في حالة تجاوزهن للمبادئ الدينية، أو تغاضيهن عن ممارسة الشعائر بشكل لائق، لكنه يبدو أكثر صرامة وأقل تسامحا مع المحجبات في هذا الجانب". "الحايك" و"اللثام" والنقاب في مناطق كثيرة من المغرب، كانت النساء قبل سنوات قليلة يستعملن ملاءة عريضة من القماش لستر رؤوسهن وأجسادهن تسمى "الحايك". هذا الجلباب التقليدي بدأ يختفي في مناطق كثيرة من المغرب، وليس فقط في مدينة الصويرة، التي اشتهرت نساؤها ب"الحايك". إلى جانب "الحايك"، يعتبر "اللثام" حجابا محليا ظهر في فاس مع بداية القرن العشرين، ثم في مدن أخرى، مثل مراكش والرباط وطنجة وتطوان،. وينسب إلى فاس أساسا، ويلبس إلى جانب "القب الفاسي". ويكاد هذا النوع من الحجاب يختفي اليوم، وحتى النساء اللواتي يلبسنه تخلين عنه لصالح الحجاب العادي. "الفولار" نوع آخر من الحجاب. ظهر بداية السبعينات، ولا ينطلق من قيم دينية، وإنما للوقار وجلب الحياء. ويعتبر حجابا بسيطا على شكل منديل يغطي الرأس، وهو الأوسع انتشارا بين الأمهات المغربيات. نوع آخر، أفغاني الأصل، ظهر مع أواخر الثمانينات، آتيا من أوربا مع ما يعرف بظاهرة رجال الدعوة والتبليغ. إنه النقاب، ويكون في الغالب أسود يغطي رأس المرأة وجسدها، وأحيانا لا تظهر منه إلا العيون من تحت ثوب أسود شفاف. إطار "بيزنس" الحجاب يقول محمد فاضل رضوان، الباحث في سوسيولوجيا الأديان بجامعة مونتريال بكندا: "تقف مؤسسات الموضة بكامل آلياتها وراء ظاهرة "بيزنس الحجاب"، التي أفرزها تحوله إلى موضة، إذ نعمل على استغلال هذه الموجة وخلق صناعة جديدة بعيدة كل البعد عن مبدأ "الحجب" الذي يتحكم في البعد الديني للحجاب". ويضيف: "المرأة المحجبة في مغرب اليوم، كما في غيره من المجتمعات الإسلامية المعاصرة، قد تبدو في كثير من الأحيان غير منسجمة مع مبدأ الحجب الذي يستند إليه النص الديني، بل قد تصل إلى مرتبة الإثارة التي تشكل محور اشتغال المؤسسة الموضوية مع جسد المرأة". بالمقابل يؤكد عبد الباري الزمزمي أن الإسلام أوجب الحجاب على المسلمة دون أن يقيدها بشكل معين منه. وكيفيته وشكله، وتقطيعه، هي أمور ترجع إلى العرف والعادة، ذلك أن الإسلام، كما يقول رئيس الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في فقه النوازل، "وضع شروطا إذا توافرت في لباس المرأة صار هو الحجاب الشرعي". وفي معرض رده على سؤال حول شروط الحجاب الشرعي، شدد على أن يكون ساترا للبدن كله من الرأس إلى القدمين، ما عدا الوجه والكفين، وأن يكون غليظا غير رقيق، وغير شفاف يصف ما تحته من الجلد والزينة. أيضا أن يكون واسعا فضفاضا غير ضيق، ولا لصيقا بالبدن، ولا يحدد معالم الجسد ويبرز أعضاءه،وألا يكون زينة في نفسه، وألا يكون لباس شهرة".