أقدم الشعب الليبي المغوار خطوات رائعة في التضحية ونكران الذات، أربكت نظام العقيد القذافي وهز كيانه، كما أعطى الشعب البرهان مرة أخرى بأن الشعوب هي الاقوى إذا نهضت وأن إرادتها لا تنكسر مهما كان جبروت النظام، ففيما معمر القذافي كان يتهم الشباب بالهلوسة، بدا خطابه هو أكثر من الهلوسة، كان خطاب احتضار أكثر منه خطابا يلامس حقيقة التوق للبقاء، كما برهن مرة أخرى كم هو متخلف النظام العربي عن شعوبه، فرغم أن عناصره متمكنة من الثروة والجاه، بما يجعلها مؤهلةأكثر في التحصيل العلمي والمعرفي ، إلا أن خطاباتهم بدت أكثر تخلفا وانحطاطا، كما أظهر العقيد القذافي خلبطة اختلط فيها الحابل بالنابل، بشكل بات مؤكدا أنه ينتمي إلى زمن غابر، زمن الويلات، زمن بعيد بسنوات ضوئية، وعلى الرغم من نبرته التسلطية فهو لم يعبر إلا عن حقيقة واحدة تدعوا إلى الشفقة، كان خطاب من يطلب الشفقة وإن بنبرة التهديد، قال بأنه لم يستعمل القوة، لكن هدد بانه سيستعملها من الآن، بينما الحقيقة كانت تظهر أنه استعمل كل ما في جعبته ولم يبق له سوى الزفرة الإخيرة للإحتضار، نعرة الجبناء ممن يرفضون الإستسلام لقدر الموت توقا للحظة بقاء، كانت نبرته تدعوا إلى الشفقة والإستنجاد أكثر منها إلى التهديد، فالمسكين ليس له من مفر، لا صديق ولا حميم، ومن هو البلد الذي يمكنه استقبال عقيد أحمق، فما قيل عنه بأنه سافر سرا إلى فينزويلا لم يكن إلا دعاية مغرضة، ونعرف أن أوربا والغرب بشكل عام يتمنى أن تنتقل العدوى إلى فينزويلا. المحزن للغاية كانت مرة أخرى المواقف الأوربية، ومع ان التجربة في تونس وبعدها مصر لم يمس فيها التغيير مستوى علاقات هذين البلدين بالكتلة الأوربية إلا أنها على ما يبدو كانت أكثر انزعاجا وفي العمق، ففي ليبيا مثلا لم تتحرك إلا عندما سالت شوارع بنغازي ومدن أخرى بالدماء، والحقيقة ليس تدفق الدم هو من جلجل هذه الكثل الأوربية، بل إن معظم ليبيا سقط في أيادي الثوار، ولم تفلح معهم محرقة نيرون الإفريقي، إنه الوجه المخفي وسط التداعيات الاوربية، مرة أخرى كانت هواجس الطاقة او البترول الليبي، بل إن إيطاليا الجار المستعمر، استعملت تجميلا آخر، أخرجت ثغاء عنز الصحراء وأثارت مشكلة الهجرة والمهاجرين الأفارقة، ولم ترى، وبلكنة فاشية مرة أخرى، في الأفارقة إلا جرادا مفزعا، والنظام الليبي اللاإنساني هو الحل، أي النظام الذي يبيذ الإنسان هو الحل لأمن أوربا العجوز، أوربا المسكينة التي تتخبط في أزماتها الذاتية، العجوز العشماء التي أنهكها السن والبرد القارس، فهي تحتاج منا نفطا للتدفئة وحراسا أشداء يقونها من الجراد الإفريقي، لكن لا أحد تساءل، لماذا علينا نحن بالتحديد من عليهم أن يحموا هذا العجوز من هذه الكوارث الطبيعية، لماذا نحن دائما علينا، ولكي نكون استراتيجيين في السياسة، ونرتقي مع أوربا درجة معينة من الصداقة، علينا بالضرورة أن نكون عسكرييها، أوربا لا تريد لنا ديموقراطية حقيقية لأن الديموقراطية بالتحديد علة مرضية سترفع عندنا سقف التعاطي مع السياسة من حيث تخدم علاقتنا مع الأوربيين، علاقة مبنية على مصالح ندية تراعي مصالحنا بشكل متوازن، أوربا تريد في الجنوب حكاما جبناء ملطخة أياديهم بكل ما تبخرت به مزبلة التاريخ، حكاما تتوفر فيهم، كل ظروف الإدانة، فهم مناهضون للحريات العامة، قتلة، لصوص لثروات شعوبهم مصاصون ومشاؤون بنميم، دول لأنظمة مخابراتية وهم أيضا وقبل كل شيء، ليسوا منتخبون، بهذه المواصفات لا يمكن لحاكم عندنا أن يمثل المصالح الندية للوطن مع الآخرين، بل يستطيع فقط أن يكون مأمورا وإن استعصى عن الأوامر تدخلوا وأجبروه وصبوا عليه لعنة العمالة والدماثة واختراق كل المباديء الإنسانية وإن دعت الضرورة أزاحوه وغيروه بكلب آخر، فالهواجس الحقيقية للبلدان الغربية بشكل عام هي ان تنتقل شعوبنا للتحكم في مصائرها، وتشكل ندا حقيقيا لها، هذا بالتحديد ما يخلخل دفء الحياة الحالمة للعجوز العشماء وعبرها الغربيون بشكل عام حيث ينهكون حياتنا وينهمون ثروتنا الحقيقية مقابل أوراق خضراء وزرقاء فارغة، وبطاقة انتماء إلى نواديهم. العقيد الليبي خطب خطبته الاخيرة، وكانت في الحقيقة هلوسة احتضار، كان أكثر منه يهدد، ويعرف يقينا أنه لم يعد في قبضته رصاص، قال بأنه لم يستخدم السلاح بعد والحال أنه استخدمه وبكل قوة وما بقي من هذا السلاح الذي لم يستخدمه هو في يد الثوار والمنشقين من نظامه، واكثر من هذا مارس حرب الأرض المحروقة عندما أرسل طائرات لقصف آبار النفط لولا حذاقة الطيارون على ما افادت وكالات الاخبار على قلتها بسبب التعتيم، استشاط وزفر وناح يستنجد انبعاثا جديدا للجن الشعبية الميتة أصلا، خطابه بكل الحقيقة كان صرخة البدوي الذي لا حول ولا قوة له أمام هول الكوارث الطبيعية، جس على وتر التطاحنات القبلية، لكن الشعب الليبي كان أذكى من أن ينجرف في صراع البداوة: لا قبلية لا قبلية... شعب الليبي كل اخوة...إنه الشعار الرائع، روح الحياة الجديدة، ولغة التجاوز لصنمية لا زالت تتخبط ان تطفوا على رمل العهود الوثنية، مقابل ذلك رفع الثوار علما يرمز إلى الإنتماء للهوية الحقة وفاء لأصالة الشعب وانتمائه التاريخي ونبذا لحقبة الصنم وتعبيرا منهم عن أن التاريخ الليبي توقف منذ دخل هذا الصنم حياة الليبيين.عمليا صقط الصنم وما تبقى منه ليس سوى صدى النواح وهلوسة الإحتضار، سقط بشكل أستطيع ان أقول للشعب الليبي: هنيئا لك أيها الشعب العظيم، وما تشهده حتى الآن من اعصار ليس سوى مخاضا لولادة جديدة. تحية إجلال وإكبار للشعب الليبي