من الثابت أن الفيلم السينمائي باختلاف اجناسه يفرض على المشاهد مواقف وتوجهات معينة سعيا وراء امتلاك شعوره وفكره، من خلال دس خطابات معلنة أو مشفرة بين صوره، قد تكون سلبية او ايجابية وذلك حسب رؤى وتوجهات اصحابه. ليس بالضرورة ان يكون هذا الفيلم تخييليا بحكم انتشاره الواسع، بل قد يكون وثائقيا كذلك، وهو الأكثر خطورة على المتلقي من غيره -حسب رأيي المتواضع- لان التحكم في صناعته قد يدفع بطريقة او باخرى الى التحكم في تغيير احداث، او نظريات، او معطيات، او فرضيات معينة قد تكون مسيطرة على مخيلة المشاهد وفكره، بل قد يغير جزءا من التاريخ او التاريخ كله، وانا في قولي هذا لا أبالغ مطلقا، كون الجمهور او كون البعض منه على الأقل يرى في الفيلم الوثائقي وسيلة معرفية خالصة تمتلك الحقيقة الكاملة، حقيقة لايمكن الجدال فيها، وهذا خطير جدا، خصوصا في عالمنا العربي حيث ينقصه الكثير في هذا المجال - مجال الفيلم الوثائقي- فنقص الوسائل التوعوية من برامج واعلام متخصص وكتب ومنشورات نقدية... تهتم بهذا الجنس السينمائي يجعل المشاهد العربي يتوه بين ثنايا عوالمه وبالتالي يبقى تحصينه من الافكار والثقافات الدخيلة منعدما تماما، ونفاجأ حقيقة اذا ما اطلعنا على مقالة هنا او هناك تنهل من الوثائقي موضوعا لها او كتاب يصدر في هذا البلد او ذاك يشرح الصورة الوثائقية ويطلع القارئ على خباياها، لهذا نصفق بحرارة لكل مشروع خلق أو تأسس خدمة لهذه النوعية من الأفلام. طرح في السوق مؤخرا عن مطبعة وراقة المتحدة، كتاب جديد موسوم ب"الوثائقي أصل السينما" لصاحبه الدكتور بوشعيب المسعودي، وهو كتاب يهتم بالفيلم الوثائقي وقد تطرق في مجمله الى الصورة في سياقها الفكري لا الترفيهي، وأعطى بهذا جرعات منعشة للخزانة المغربية التي تفتقر لمثل هذه النوعية من الكتب. أفكار وومضات متتابعة ترشد القارئ الى مكامن القوة والضعف في بنية الوثائقي من خلال اعتماد منحى سردي متراكم المعلومات، اعتمد الكاتب في ترشيدها على عدة مراجع ومصادر مستقاة بدقة وتركيز. اتخذ المؤلف في كتابه سيرورة متناغمة من الفصول، متوزعة حسب بناء عمودي متجانس فرضته بقوة اجراءات الإستقاء المفروض، والايجاز اللازم للوصول الى ذهن المتلقي، وكمثال على ذلك نأخذ التراتبية التالية (مفهوم الوثائقي، تعريف الفيلم الوثائقي، صناعة الفيلم الوثائقي، أنواع الفيلم الوثائقي، الفيلم الوثائقي في إفريقيا والدول العربية، نقد الفيلم الوثائقي، الفيلم الوثائقي والروبورتاج، الفيلم الوثائقي والمهرجانات والوثائقيات.) وينبغي هنا ان نشير الى اننا ادرجنا العناوين العريضة فقط والتي تتوزع بدورها الى عناوين فرعية تختلف باختلاف الفصول. القدرة على استيقاء المعلومات وابرازها بقوة هو الملمح البارز في الكتاب، الشيء الذي يدفعك بقوة الى استكشاف عوالمه علك تحظى باجوبة لكل الأسئلة المطروحة في ذهنك حول الفيلم الوثائقي. ربما ''سعادة'' الدكتور الحبيب ناصري وهو يقدم للكتاب حيث يقول:''سعيد جدا، بتقديم هذا المؤلف/الباكورة الأولى، لصديقي الطبيب، الدكتور بوشعيب المسعودي...'' وهي سعادة ماكرة - ايجابا لا سلبا - عنونت بالبند العريض تمرد الكاتب على ميدانه الاصلي (الطب) والتورط في الفعل السينمائي من خلال باب التأليف، وهو تورط ايجابي مشروع، سيؤثث لامحالة لمؤلفات أخرى قادمة تهتم بنفس المجال، وهذا ما نحتاج اليه فعلا. يتابع الدكتور الحبيب ناصري مقدمته ويقول:''...فعلا الوثائقي أصل السينما، وفعلا أثبت به الدكتور بوشعيب المسعودي، أنه عاش رحلة القراءة والبحث في ما كتب، وبهذا العمل، تكون ساحتنا الثقافية بشكل عام، والسينمائية بشكل خاص، والوثائقية بشكل أخص...''. المعروف عن الدكتور بوشعيب المسعودي انه قارئ نهم، وشخص متمكن من أدواته التحليلية بطريقة علمية بحكم دراسته وتخصصه، وهو بهذا الكتاب أبى الا ان يشاركه القارئ أفكاره وبعضا مما اطلع عليه، بعيدا عن حب الذات والانانية المعروفة لدى البعض. حول سبب تأليفه لهذا الكتاب يقول الدكتور بوشعيب المسعودي:''... للأسف الشديد لم أجد، بشكل عام، في اللغة العربية كتبا أو مجلات تتكلم عن الفيلم الوثائقي بصفة خاصة ...من هنا راودتني الفكرة، وأنا أطالع بعض الكتب المختصة في الفيلم الوثائقي بلغات أجنبية، أن أجمع وأترجم بعضا من هذه الكتب، وفضلت أن أكتب كتابا خاصا عن "الفيلم الوثائقي" أستلهم فيه ما قرأته من الكتب والمجلات والمراجع العربية والمغربية والأجنبية...''. ختاما لابد أن نذكر ان كتاب (الوثائقي، أصل السينما) هو باكورة مؤلفه الدكتور بوشعيب المسعودي وهو بالمناسبة مدير للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة، وعضو نشيط في هيئة تحرير مجلة الفوانيس السينمائية، له العديد من المقالات المنشورة في جرائد وطنية وأجنبية والكترونية. من الناحية العلمية والمهنية يعتبر الدكتور المسعودي من اللأطباء الاكفاء في مدينته خريبكة، حاصل على الدكتوراه في الطب العام سنة 1987 بالمغرب، ثم الاختصاص في أمراض المفاصيل والعظام والروماتيزم سنة 1992 بفرنسا، كما انه ناشط جمعوي في عدة جمعيات طبية واهلية.