أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) اليوم الأحد مسبار باركر، وهو أول مركبة فضائية من صنع الإنسان مصممة لعبور الغلاف الجوي للشمس، في مهمة تاريخية من شأنها حماية الأرض من خلال كشف ألغاز العواصف الشمسية الخطرة. ليلامسها على مسافة لم يسبق لها مثيل ويعبر غلافها الجوي، في محاولة لكشف أسرارها. ويحمل المسبار أربعة أجهزة، ستعكف على محاولة فهم شدة حرارة هالة الشمس التي تتجاوز مليون درجة، وأسباب العواصف الشمسية وصور مقربة لسطح الشمس. وبسبب مشكلةٍ تقنية في اللحظة الأخيرة تتعلق بضغط الهيليوم، تعطلت رحلة ناسا غير المسبوقة إلى الشمس لمدة يوم أُوقِف العدُّ التنازليُّ للإطلاق السبت 11 غشت قبل دقيقة و55 ثانية فقط من انطلاق الرحلة، وظل صاروخ Delta Four في كيب كانافيرال في فلوريدا برفقة مسبار باركر الفضائي. وجاء هذا تباعاً لمشاكل سابقة في العد التنازلي، حسب صحيفة The Guardian البريطانية. وفور ما يبدأ رحلته، سيدنو مسبار باركر من نجمنا أكثر من أي مركبةٍ فضائية أخرى. وتأخرت الرحلة التي ستتكلف 1.5 مليون دولار أسبوعاً بالفعل بسبب مشاكل في الصاروخ. واحتشد آلاف المتفرجين في منتصف الليل لمشاهدة إطلاق الصاروخ، بمن فيهم عالم الفيزياء الفلكية من جامعة شيكاغو الذي سُمِّيت المركبة تيمناً به. تنبأ يوجين باركر بوجود الريح الشمسية منذ 60 عاماً. وعمره الآن 91 عاماً ويتوق لرؤية المسبار الشمسي يُحلِّق. كيف انطلقت؟ من منصة إطلاقه في كيب كانافيرال بفلوريدا، انطلق مسبار باركر الفضائي في مسارٍ يمر بكوكب الزهرة، ويدور دورةً كاملة حول الشمس قبل الاقتراب أكثر من أي وقتٍ مضى من الغلاف الجوي قائظ الحرارة للنجم، وهو الإكليل الذي يضيء كهالةٍ في حالة الكسوف الشمسيِّ الكامل. وتهدف الوكالة الفضائية الأميركية إلى إطلاق المسبار في الساعة 3:48 صباحاً بالتوقيت المحلي. تحتاج الرحلة لطاقة هائلة من ناحية علم الطاقة البحت، هذه الرحلة ليست كَسِواها من الرحلات. للتحرر من تأثير الأرض، تحتاج المركبة طاقة إطلاق تبلغ 55 ضعف الرحلات المتجهة صوب المريخ. ولهذا فإنَّ مسبار باركر الفضائي، الذي لا يكبر في حجمه عن سيارة عائلية، يجثم على صاروخ Delta Four ثقيل بطول 72 متراً، وعرض 15 متراً، ويحمل أكثر من 600 طن من الوقود. وسيسافر بسرعة هائلة كذلك سينتج عن حرق ذلك الوقود الدفعي مركبة تسافر بسرعةٍ تفوق أي جسمٍ صنعه البشر على مرِّ التاريخ. فعند نقاط اقترابه القصوى من الشمس، سيدور مسبار ناسا حولها بسرعة 690 ألف كم في الساعة تقريباً. بتلك السرعة يستغرق الوصول من قرية جون أوغروتس الإسكتلندية إلى بلدة بينزانس الإنكليزية سبع ثوانٍ، حتى مع الزحام المروري على الطريق السريع M5. وسيقترب من كوكب الزهرة بعد أول اقتراب من الزُهرة في أواخر سبتمبر، ستبلغ المركبة الشمس في نوفمبر، وتُرسل أولى البيانات إلى الديار في ديسمبر/كانون الأول. وأثناء الرحلة المستغرقة سبع سنوات، ستدور حول الزُهرة ستَّ مراتٍ أخرى، مستمدَّةً قوة الدفع من جاذبية الكوكب لتقليل مدة دورتها حول الشمس. وفي المُجمل، سيدور مسبار باركر حول نجمنا 24 مرةً ويقترب من سطحه المرئيِّ، أو الفوتوسفير، بمسافة 6.5 كم تقريباً. ثم سيصل لهالة الشمس، لكن كيف سيتحمل الحرارة الهائلة؟ وحتى عند تلك المسافة من الشمس ستطير المركبة عبر الهالة التي تبلغ الحرارة فيها 3 ملايين درجة مئوية. والسبب الوحيد لقدرة المسبار على تحمل الحرارة هو كون الغلاف الجوي رقيقاً للغاية. ويكمن التحدي الأكبر في هجوم ضوء الشمس على هذه المسافة الدانية. وللنجاة منها، يحتمي المسبار بدرعٍ حراريَّة سُمكُها 12 سم ستبلغ حرارتها 1400 درجة مئوية. وإذا مالت المركبة وواجهت الشمس مباشرةً، ستذوب كالشمع والريش اللذين حلَّق بهما إيكاروس. وقالت نيكي فوكس، إحدى علماء المشروع بجامعة جونز هوبكينز في ماريلاند: «لا شيء سهل في هذه المهمة. إنَّها بيئة قاسية جداً. سيتنفس جميع العاملين على المهمة الصعداء ومنهم أنا حين تخرج المركبة من الهالة للمرة الأولى». ألغاز الشمس الغامضة ربما تكتشف أخيراً مع أنَّها الجسمُ المسؤول عن وجود الحياة على كوكب الأرض، فإنَّ الشمس يكتنفها الغموض. ومن ألغازها الهالة نفسها التي حرارتها أعلى ب500 ضعفٍ من السطح المرئيِّ، الذي تبلغ حرارته 5500 درجة مئوية. وعلى حد قول نيكي فوكس، هذا أشبه بالابتعاد عن نار المخيَّم لتجد أنَّ الحرارة ترتفع. وقالت أيضاً: «نعلم أنَّ شيئاً ما بتلك المنطقة يسبِّب هذه الحرارة غير المعقولة، لكنَّنا نجهل كنهه». لكن عن طريق مجموعة أدواته، سيطير مسبار باركر الفضائي عبر الهالة بحثاً عن الأجوبة. ومن الألغاز الأخرى مصدر قوة الريح الشمسية، الغاز المتأيِّن الذي ينبعث من الشمس بسرعة 1.6 مليون كم في الساعة. سَخِر المجتمع العلميُّ من فكرة وجود هذه الريح عندما اقترحها عالم فيزياء شاب يُدعى يوجين باركر في الخمسينيات. لكن مع الوقت أدرك العلماء كيف أن الريح الشمسية تضرب كوكبنا، وتضيء أوقات الشفق الدرامية، وينتج عنها طقسٌ فضائيّ بوسعه زحزحة الأقمار الصناعية عن مساراتها، وتعطيل شبكات الكهرباء، وتعريض رواد الفضاء لإشعاعات بالغة الحدة. وتأخذ المهمة اسمها من صاحب ال91 عاماً الذي قلَّل من شأن إنجازه ذات مرة، وأعلن أنَّه لم يفعل سوى أن كتب ورقةً. إنها رحلة استكشافية مميزة وقالت نيكي فوكس: «هذه تساؤلات حيَّرت العلماء عقوداً وعقوداً. سنذهب إلى آخر منطقةٍ مهمةٍ من نظامنا الشمسيِّ لم نستطلعها بعدُ. إنَّها رحلة استكشافية». ويأمل الباحثون في فهم ألغاز الطقس الفضائيّ فهماً أفضل، متسلِّحين بالنتائج الحديثة من المسبار، وبهذا يتنبَّؤون بآثاره بدقةٍ أكبر. تسعى إلى لمس نجمنا الشمسي وحسب اللغة الشاعرية لوكالة الفضاء الأميركية هذه «رحلةٌ تسعى إلى لمس الشمس»، لكن بواسطة فهم أقرب نجومنا، سيعرف العلماء المزيد عن النجوم المتناثرة في أرجاء الكون. ويتَّجه المسبار نحو الشمس قريباً من الدورة الدنيا لها، الوقت الذي تندر فيه البقع الشمسية على سطحها. وعلى مدار الرحلة، سيجمع مسبار ناسا الملاحظات مع ازدياد نشاط النجم واكتسائه بالبقع الشمسية. وإذا سار كل شيءٍ حسب الخطة، ستطير المركبة عبر انفجارٍ واحدٍ كبيرٍ على الأقل من الشمس يُعرف بالانبعاث الكتليِّ الإكليليِّ. ويتحكمون بالمركبة من الأرض ومن مكاتبهم البعيدة على كوكب الأرض، سيكون تحكُّم العلماء المشرفين على الرحلة بالمركبة محدوداً. إذ تستغرق الاتصالات قرابة الثماني دقائق للوصول إلى المنطقة المحيطة بالشمس، لذا فالمسبار مُبرمج مُسبَقاً للاستجابة للأخطاء الفنية بأقصى ما يمكنه. فإذا أحسَّ بأنَّه يدور وترتفع حرارته، سيُطلق المسبار صواريخ دفع صغيرةً للحفاظ على ثبات الدرع الحرارية بينه هو والشمس. ثم تقوم بالطيران «الرومانسي» الأخير والطيران الأخير بالقرب عند كوكب الزُهرة سيضع مسبار باركر الفضائي في مدارٍ مستقرٍّ حول الشمس، لكن في النهاية، سينفد وقود الهيدرازين من المركبة، وهو الوقود اللازم لتثبيت درعها في موضعه. وعند حدوث ذلك، ستدور المركبة ببطء وتعرِّض نفسها للأشعة الشمسية بكامل قوتها. وقالت نيكي فوكس: «ستنفجر إلى أشلاء، وستصبح الأشلاء أصغر وأصغر، حتى تصير جزءاً من الريح الشمسية. على الأقل تلك هي القصة الرومانسية التي أردِّدُها في سريرتي لكي أتقبَّل دمار المركبة»