كان العلماء دائما يصرون على وجوب التعرف على مذاهب الناس من كتبهم وأدبياتهم، وهذا أمر يتجاوز إشكالية الإنصاف إلى كون ذلك طريقة لمعرفة طبيعة النظريات وأصولها وأشكالها وربما امتداداتها، وقد كان هذا الأمر حاضرا عند المشتغلين بالدرس الأصولي، وقد كنت دائما أعرف بأن كل ما يعرضه العلمانيون في كتاباتهم من إعادة قراءة النصوص الشرعية وما يدور في فلكها وما تنتجه القراءة العلمانية لها من أحكام تبدو مخالفة لمقتضى الشريعة له أصول يرجع إليها عندهم، وقد يصدم الباحث حينما يقف عليها بقلم واحد من كبار منظري الفكر العلماني اليساري في المغرب. عرف الجابري بطريقته الخاصة في قراءة التراث الإسلامي، ولعل أوسع المنتقدين له في ذلك جورج طرابيشي في كتابه "نقد نقد العقل العربي"، ومع ملاحظات كثيرة وكبيرة عليه، فهو بحق واحد من الكتابات التي تعرفت على فكر الجابري بطريقة دقيقة، وقد يصعب على الباحث استخراج النظريات الجابرية في صورة مجتمعة، لأن الجابري كان يعرضها دائما في صورة أقيسة منطقية مبعثرة المقدمات، فربما ذكر نتائجها أو ترك ذلك للقارئ نفسه. وعلى خلاف ما قد يتوهم باحث مصر على استنباطها من أعماله الكبرى، فإن الجابري أحيانا يضطر إلى مساعدة قارئه المستهدف على ذلك في كتابات أخرى دونها في حجمها وقيمتها، بل يصل أحيانا إلى نوع من التبسيط الخطير الذي يختزل كتاباته الكبرى بطريقة فجة وصادمة. في العدد 27 من سلسلة "مواقف"، حاول الجابري في بعض مباحث العدد أن يقدم القراءة العلمانية البديلة لأحكام الزنا والحجاب، وقبل أن يشرع في القراءة قدم لذلك بما يشبه التنظير، وكان ما فعله الجابري صادما من وجوه مختلفة زادت من قوة الصدمة عندي شخصيا، وكان ما اكتشفته في الجابري خاصة، وطبيعة التنظير العلماني لهذه الممارسة الهجينة خطيرا جدا، فقد بدأ الجابري بالتنبيه على أن تقديس نص القرآن هو المبدأ الأساس الذي يقوم عليه الإسلام، وهو كلام ظاهره الموضوعية والتحقيق، لكنه كان يريد بهذا تنحية الحديث النبوي سريعا قبل البدء في القراءة، وهو يعلم جيدا أن فصل الحديث عن القرآن هو الطريقة الأنسب لتسهيل عملية انسياب تنظيره بسلاسة إلى عقل القارئ، ولكن يعكر عليه هذا أن الحضور القوي للحديث في القراءة التأويلية للقرآن لا يمكن تجاوزه أو التنصل منه، ومعروف عن الجابري أنه لا يستدعي الحديث إلا لتضعيفه أو حين يحتاجه، وليس هذا ما يهمني هنا، فالآتي أدهى وأقبح! نص الجابري على أن فهم القرآن أو تفسيره أو تأويله كله اجتهاد، ثم وضع المقدمة التالية لاستكمال قياسه فقال: "الاجتهاد جهد يبذله المكلف من أجل فهم وتطبيق شرع الله المنصوص عليه في القرآن والسنة.."، وقد يبدو هذا التعريف نوعا من تقرير المعروف عند المسلمين.. لكن، لماذا وضع الجابري كلمة "المكلف" مطلقة في التعريف؟ كان الجابري يمارس نوعا من الاستدراج الذكي للقارئ، فإنه بعد هذا التقرير الغريب والمثير، قال: "وبما أنه من غير المقبول أن ينوب شخص عن شخص في أداء الفرائض ولا في فهم الشرع ولا في تطبيقه ولا في تحمل المسؤولية فيه فقد ارتأى بعض العلماء أن الاجتهاد واجب على كل مسلم"، وهنا، ينبغي للقارئ أن ينتبه إلى عملية تدليس لطيفة قام بها الجابري، وأساسها الجمع بين مختلفين في سياق واحد، فلاحظ كيف جمع بين "أداء الفرائض" وبين "فهم الشرع" في أنه لا ينوب أحد فيها عن أحد، وبينهما في ذلك كما بين السماء والأرض! وسينتبه القارئ اللبيب إلى أن الجابري يحاول التأصيل لكارثة أصولية من العيار الثقيل، وهي أن الاجتهاد في فهم القرآن ليس خاصا بالعلماء، بل إن العوام أيضا مطالبون به باعتبارهم مكلفين، ولا يجوز للعامي أن ينيب عنه عالما في الفهم، وهو ما صرح به الجابري بقوله: "بمعنى أن عليه أن يجتهد هو شخصيا في فهم الشريعة وأحكامها"، فواضح جدا أن الجابري يرى للعامي الحق قي تفسير القرآن وفهمه بنفسه متحررا من سلطة الرجوع إلى العلماء وتقليدهم، ولكنه كان يحتاج إلى ترس تراثي لاختياره حتى يخفف من حدة سهام ما قد يجده من المنتقدين له، وقد وجد الجابري بغيته في ابن حزم، لكن مع شيء من التحريف. اشتهر ابن حزم بما قرره من وجوب الاجتهاد على كل المكلفين مانعا من التقليد، بل إنه شدد النكير على من قال بوجوب تقليد العامي للمفتي، وهذا ما لفت انتباه الجابري، فسارع إلى توظيفه بطريق الانتقاء الذي عرف به في كتاباته الكبرى، فنقل عنه قوله: "من ادعى تقليد العامي للمفتي فقد ادعى باطلا…"، وكادت محاولة الجابري أن تنجح لولا أن ابن حزم نفسه أفسد عليه هذه العملية، والسؤال الكاشف هو، ما حقيقة مذهب ابن حزم في اجتهاد العامي في الشريعة؟ وما معنى التقليد عنده؟ وهل هو ما ينظر له الجابري؟ يكفيني قول ابن حزم: "اجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له: هكذا أمر الله ورسوله؟ فإن قال نعم؟ أخذ بقوله، ولم يلزمه أكثر من هذا البحث، وإن قال له: لا… فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه، وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان…". فهذا هو حقيقة مذهب ابن حزم في اجتهاد العامي، وسهل على القارئ أن يستنبطه من هذا النص، فهو يرى أن اجتهاد العامي هو سؤال العالم عن حكم الشريعة منسوبا إلى الله ورسوله، فقط، وليس له أن يجتهد هو في الاستنباط والفهم.. لأنه غير مؤهل لذلك، وهذا هو حقيقة العامي، وبهذا يختلف عن العالم المجتهد، إذن فقد مارس الجابري تدليسا واضحا حينما استعمل مذهب ابن حزم على غير وجهه. يحزنني كثيرا أن أرى الجابري على هذه الصورة السيئة، ويحزنني أيضا أن كثيرا جدا من أتباع فكره صدقوه في ذلك، ولكن الشمس لا يمكن حجبها بغربال، والذي أقصده من كل هذا التنبيه على أن الأساس الذي اجترأ به العلمانيون المعدودين عواما في باب علوم الشريعة لا وجود له، حتى إنك لتسمعهم يتحدثون اليوم عن أن لكل واحد الحق في فهم كلام الله تعالى دون الحاجة إلى الفقهاء الذين احتكروا الشريعة على طريقة الكهنوت، في سلسلة من المغالطات المحزنة، وإسقاط هذا التنظير كفيل بكشف مراد العلماني من الجرأة على الشريعة، فإنه حينها سيكشف طبيعة قراءته، وأنها مؤسسة على الهوى، لا على نظرية اجتهاد العامي الحزمية.