هوية بريس – الأربعاء 02 أبريل 2014 خصائص المجتمع الإسلامي سواء الراشد أو دونه تناولت في المقال ما قبل الأخير من هذه السلسلة مفهوم مصطلح السياسة، حينما يراد به نظام الحكم الذي تنتظم به البلاد وقاعدته الكلية وما يستلزمه من إصلاحات. وفي هذا المقال أتعرض لمصطلح السياسة باعتبار آخر، وهو حينما يراد به تدبير الشأن العام للدولة أو رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية بما يكفل مصالحها جلبا للمنفعة أو دفعا للمضرة، أو الطريقة التي يسلكها رجال السياسة في توقيع الرؤية المستقبلية للدولة بتفعيل ما تفرع عن نظام الحكم الذي تنتظم به البلاد، أو التدابير التي يتخذونها في مواجهة الأحداث والمستجدات، فالسياسة بهذا الاعتبار ترتبط بأصل الممارسة وفعل الأصلح أو ما يسمى بفن الممكن بغض النظر عن نظام الدولة التي تنتمي إليه سياسيا، وذلك لارتباط الممارسة ارتباطا مباشرا بالممارس للعمل السياسي من خلال حسن تدبيره، ومدى نجاعة اختياراته، وظهور حكمته ورجحان عقله، فهو مجال بذل الجهد واستفراغ الوسع في جلب المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها، واعتبار الأصلح فالأصلح ودفع الأفسد فالأفسد. ومن هذا الباب ولاية يوسف الصديق لخزائن الأرض. ومنه وصف الرسول صلى الله عليه وسلم النجاشي ملك الحبشة بأنه ملك عادل. ويندرج في هذا الباب ما دل عليه وصف النبي صلى الله عليه وسلم لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين أنها خلافة أو سياسة راشدة؛ لأنها جمعت أحسن ما يمكن فعله في باب السياسة وتدبير الشأن العام لتحقيق مقاصد الشريعة وفعل الأصلح ودفع الأفسد، أو كما اصطلح عليها ابن القيم رحمه الله بقوله: «فِقْه فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الْكُلِّيَّةِ، وَفِقْه فِي نَفْسِ الْوَاقِعِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ»(1). ويندرج في هذا الباب أيضا، بل يدخل من أوسع أبوابه ما قام به الحسن بن علي رضي الله عنه سيد شباب الجنة حينما تنازل في الحكم لمعاوية رضي الله عنه، وإليه الإشارة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ»(2). فهو إصلاح سياسي عظيم جنب الأمة من الشرور ما يعلمه -على سبيل القطع- إلا الله سبحانه. وعليه، فالسياسة بهذا المعنى تختلف تفاصيلها ومواقفها ومظاهرها بحسب الأشخاص والأحوال والأزمان والبلدان في النظام الواحد وتحت المرجعية الواحدة، فسياسة عمر مثلا في خلافته، ليست هي سياسة أبي بكر رضي الله عنهما، وسياسة علي كانت غير سياسة عثمان رضي الله عنهما. وهكذا هي تختلف بحسب المصلحة وإن كانت كلها سياسات شرعية تحت مرجعية واحدة ومظلة نظام واحد ألا وهو الإسلام عقيدة وشريعة. والسياسة من حيث هي ممارسة فهي نتاج بشري قابل للتخطئة والتصويب، والتغيير والتبديل، والتعديل والتقويم، والتأرجح بين الكمال والنقصان. فصاحب الولاية قد يسوس الناس خطأ باللين في واقع معين حيث يكون المطلوب منه هو الشدة، وقد يسوسهم بالتضييق والتقشف حيث يكون المناسب هو التوسعة، وقد يسوسهم بالتفضيل في العطية، أو ما يسمى اليوم باقتصاد الريع، حيث يكون اللازم هو التسوية، ومن ثم كانت نسبة العدل والظلم، أو نسبة الخطأ والصواب لسياسة ما هو من باب ربط وصف الفعل بما يقوم به صاحبه، فبما أن سياسة المرء هي من كسبه فآثارها محسوبة عليه. وبناء عليه، فالسياسة قد تتصف بأوصاف ونعوت تنعت بها حسب ما ساس به المسؤول الرعية، وتنسب إليه مدحا أو ذما بحسب توفيقه أو خفقانه في تدبيره شأن الناس وإصلاح أمرهم وتحقيق العدل فيهم. فيطلق على سياسة ما أنها سياسة ظالمة أو عادلة، أو أنها سياسة خاطئة أو صائبة؛ بغض النظر عن مرجعية النظام الحاكم التي تنتمي إليه. فلا عجب حينئذ أن توصف سياسة دولة كافرة بأنها عادلة إن حققت العدل في أهلها وذويها، وأن توصف سياسة دولة مسلمة بأنها ظالمة إذا لم تحقق العدل في أهلها وذويها. وعلى هذا يتنزل قول شيخ الإسلام حينما قال: "إنَّ اللَّهَ يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً؛ وَلَا يُقِيمُ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً"(3)، وَقوله: "الدُّنْيَا تَدُومُ مَعَ الْعَدْلِ وَالْكُفْرِ وَلَا تَدُومُ مَعَ الظُّلْمِ وَالْإِسْلَامِ"(4). فقوله رحمه الله : (وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً)، أو قوله (وَلَا تَدُومُ مَعَ الظُّلْمِ وَالْإِسْلَامِ)، معناه أن نظام الدولة ومرجع الحكم -وهذا معنى السياسة باعتبار الإطلاق الأول هو الإسلام، لكن الظلم الطارئ هو من قبل من يسوس أمرها وفساد تقدير ساستها. والأمر نفسه بالنسبة للدولة العادلة الكافرة في كلام ابن تيمية، فوصف العدل الذي اتصفت به في كلامه راجع لحسن تدبير أمرائها للشأن العام وطريقتهم المتبعة في تعاملهم مع الأحداث والمستجدات، وليس لمرجعيتهم في الحكم وقواعد نظامهم السياسي. ولهذا، فقد تكون سياسة ظالمة من الرجل المسلم في ظل حكم إسلامي، وقد تكون عادلة من الرجل الكافر في دار الكفر. ومن هذا الباب ما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم شكل الحكم الذي أخبر به من أن منه ما هو ملك عاض ومنه ما هو ملك جبري. وهذا الوصف منه عليه الصلاة والسلام للأسلوب الذي سوف يتخذ في الملك عند تعاقب رجال السياسة والحكم والإمارة على حكم الأمة الإسلامية. لكن الشيء الذي لا ينبغي أن يغفله الباحثون هو أن هذه الحكومات الإسلامية؛ سواء التي صنفها العلماء بأن سياستها كانت راشدة أو التي صنفوا سياستها بأنها دون الراشدة، كانت كلها حكومات تحت مظلة نظام حكم إسلامي، أو بالأسلوب العصري كان دستورها هو الإسلام. حيث لم تكن المرجعية والسيادة فيها لشعب ولا لرجال دين، وإنما السيادة فيها كانت للإسلام. والإسلام كان هو المهيمن على ما يطرأ على حياة المسلمين من مشكلات وأقضية. أما عندما يكون الكلام عن مجتمعات أو دول المرجعية فيها للشعب والسيادة فيها لغير الشرع، فهذا أمر آخر سواء صادفت عدلا أو صادفت ظلما، فلا ينبغي على الأقل أن توصف أنظمتها السياسية من حيث المرجعية بأنها أنظمة إسلامية. وإن كان أكثر أهلها مسلمين، وذلك لكونهم لا ينتظمون في نظامهم العام بنظام الإسلام، وإنما ينتظمون بنظام ديمقراطي، ومن ثم فهي مجتمعات لا ينبغي أن ينطبق عليها وصف راشدة ولا دون راشدة. لأن المجتمعات التي تستحق أن توصف بالراشدة أو عدمها هي على سواء مجتمعات تلتزم في نظامها العام بأحكام الشريعة، وإن كان تمت خلل أو ظلم واقع فهو ليس من آثار نظامها العام، وإنما هو من سوء تدبير وتقدير من تقلد مسؤولية ممارستها على أرض الواقع. وتصنيف العلماء لتلك المجتمعات بعدا وقربا من الحكم الراشد، كان تصنيفا تابعا لمرجعيتها الإسلامية وسيادة شريعتها. لتعلق وصف الرشد أو دونه بقدر سداد رجال السياسة في اجتهاداتهم في إطار مرجعيتهم الإسلامية عند تنزيلهم أحكام الشريعة على نوازل عصرهم ومستجدات زمانهم. ومن تبين له هذا الأمر، فقد تبين له أوجه الفرق بين الممارسة السياسية في نظام المرجعية فيه للشرع، وبين الممارسة السياسية في ظل نظام السيادة فيه لغير الشرع. وذلك حتى يتقرر في ذهنه أن الممارسة السياسة مشروعة في أصلها لكن في حدود الحفاظ الدائم للموحد على عبوديته لله وحده ودينونته له سبحانه، وأن يكون مصدره في التشريع هو الله وحده لا الشعب ولا الأكثرية ولا الناس أجمعين. فهذه حقيقة لا يدركها إلا من يدرك أن المطلوب من الموحد والمسموح له به في مجتمع السيادة فيه للشرع، هو غير المطلوب منه ولا المسموح له به في مجتمع السيادة فيه لغير الشرع. بيان أصل خطأ المنغمسين في وحل الديمقراطية لكن متى يدرك حقيقة الفارق على وضوحه من ينظر إلى مجتمع السيادة فيه لغير الشرع بنفس النظرة إلى مجتمع فيه السيادة للشرع، وذلك كما فعل أخونا القباج حين وازن بين سياسة عمر بن عبد العزيز الذي كانت سياسته تحت سيادة الشرع ومنضبطة بحدوده، وبين سياسة لنماذج من مجتمعات السيادة فيها للشعب؛ انظر قوله مثلا تحت عنوان "حكم إسلامي دون الخلافة الراشدة": «فحكم عمر بن عبد العزيز مثلا هو أفضل النماذج وأقربها إلى نظام الخلافة الراشدة، وهناك نماذج منحرفة اشتد بعدها عن النظام المذكور؛ وأكثرها كان بعد الاحتلال الصليبي المعاصر؛ حيث ظهرت نظريات فكرية وأنواعا من الحكم تتبنى الطرح العلماني الذي يزعم أن الدين لا سياسة فيه وأن التشريع الإسلامي لم يتضمن نظاما للحكم ولم يلزم الأمة وحكامها بأحكام في هذا الباب!»(5). إنه لفرق ضخم بين نموذج يلتزم في سياسته بحكم الشرع ومحكوم في اجتهاداته بعدم مخالفة مقاصد الشريعة، ونموذج سياسته واجتهاداته لا ضابط لها إلا أهواء الشعب ورغبات الشعب. والموازنة بين هذا وذاك خلط مكشوف. لكن المثير في الأمر هو ما ادعاه الأخ القباج عند تعريفه للحكم الإسلامي، إذ قال: "ومعنى إسلامي: يقوم عليه مسلم لم يثبت انتقاض إسلامه بكفر بواح"(6). مما يجعل ( الحكم الإسلامي ) عنده هو الحكم الذي يقوم عليه مسلم، بغض النظر عن نظام الحكم الذي تنتظم به البلاد. وهذا القول بعيد جدا فإن كل نظام له خاصيته التي تميزه عن غيره، مما يمنع اعتبار الأنظمة المتبنية للطرح العلماني الديمقراطي أنها أنظمة داخلة في إطار نظام حكم إسلامي دون الخلافة الراشدة. فكما أن المجتمع الديمقراطي هو الذي يطبق فيه حكم الشعب، بحيث تكون أحكام الشعب هي قانون المجتمع ونظامه العام الذي تنتظم به البلاد. فكذلك فالمجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي تطبق فيه أحكام الشرع، بحيث تكون أحكامه هي قانون المجتمع ونظامه العام الذي تنتظم به البلاد. والذي يبدو، والله تعالى أعلم، أن الشيخ القباج اقتبس من تعريف العلماء لدار الإسلام، وجعله تعريفا للحكم الإسلامي، ولا يخفى الفرق بين الأمرين لمن تأمل. وإلا فلازم تعريف الأخ القباج أن تكون الدولة الإسلامية قامت في الحبشة قبل قيامها في المدينة، وذلك لقيام الحكم في الحبشة آنذاك على يد النجاشي وهو مسلم، ولم يثبت انتقاض إسلامه بكفر بواح. كما يلزمه كذلك اعتبار نظام الحكم التركي الحالي نظاما إسلاميا دون الخلافة الراشدة، باعتبار أن من يقوم بتدبير الشأن العام للدولة التركية هو مسلم وهو كذلك لم يثبت انتقاض إسلامه بكفر بواح!!! فهل الحكم الذي كان في الحبشة قبل قيام الدولة في المدينة كان إسلاميا؟ وهل نظام الحكم في تركيا نظاما إسلاميا؟! على كل حال فأردوغان أعلن أكثر من مرة جهارا نهارا أن النظام الحكم في تركيا هو نظام علماني وأردوغان مسلم ولم ينتقد إسلامه بكفر بواح!!! (1) الطرق الحكمية (ج1/ص:3). (2) صحيح البخاري باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما رقم الحديث 3463. (3) مجموع الفتاوى (ج 28/ص:146). (4) نفس المصدر. (5) "مقالات في السياسة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة" (ح:9، أسبوعية السبيل العدد:156). (6) نفس المصدر. [email protected]