وقفنا عند الطب الوقائي البدني أو الجسدي في مقال لنا سابق. مستهدفين التنصيص على الإعجاز القرآني في ميادين العلم التجريبي. ثم البرهنة المحسوسة في الوقت ذاته على أن العلمانيين الذين يقللون من شأن علم الله المطلق، ليسوا غير عبيد الأهواء والعقول الآسنة! فكان لزاما علينا أن نخاطبهم بالأشياء، أو بالواقعات التي تدرك بالحواس الخمس. إذ المدركات الحسية عندهم متقدمة على المدركات الإيمانية. هذه التي ترسخت في قلوب ملايين المسلمين الذين لم يكونوا يعرفون قبل العصر الحديث، ما الذي تعنيه المكروبات. فكان أن ناب عنهم الصدق والإخلاص للدين، في حين أن هاتين الفضيلتين هما اللتان تنقصان علمانيي زمننا الرديء، إلى أقصى حد ممكن حين تصورنا للرداءة؟ ونحن في مقالنا هذا نوجه خطاب عتاب مضمخ بالتقدير الفائق، إلى كل أخ لنا في الله مقتنع بضرورة الربط بين الطب الوقائي البدني، والطب الوقائي الروحي، إن هو راغب حقا في التطهير المزدوج: تطهير بدنه وتطهير روحه. خاصة وأن علماءنا الأجلاء -اقتداء بنبينا- يربطون دائما بين العلم والعمل. وحتى إن ذهبت طائفة منهم -ونحن معها- إلى أن الإيمان يزيد وينقص، فإنما يقصدون زيادته بخالص الأعمال التي ينبغي أن تؤتى على خير وجه. وخير وجه لأدائها هو الاقتداء في الحركة والسكون بسيد المرسلين. أما الوقوف عند حد التصديق بالقلب والقول باللسان، دون صالح الأعمال، فلا مجال عنده للحديث عن زيادة الإيمان، وفي الوقت ذاته عن الطب الوقائي الروحي؟ وهذا الطب الروحي الذي نتحدث عنه هنا، هو الممارسة اليومية في السراء والضراء لعملتي التخلي والتحلي. وهاتان العمليتان معتمدتان على المراقبة والمحاسبة. مراقبة النوايا والممارسات الهادفة، فور الاستيقاظ من النوم، إلى حين الدخول في الفراش بعد يوم حافل بما على المسلم أداؤه من فرائض وواجبات وسنن ومستحبات! إذ عليه أن يعبد ربه أينما حل وارتحل (= ممارسة الإحسان). يعبده في حقله، وفي متجره، وفي مكتبه، كمدير لمعمل، أو كمدير لمدرسة، أو كمدير لجريدة أو مجلة، أو كحاكم في أية درجة من المسؤولية… يتخلى وهو يخاطب عامة قصاده، ويتحلى قبل أن تصدر عنه كلمات جارحة… يتحلى بالصبر، بحيث إنه يتحمل حديث الناس بصدر رحب… ويتخلى عن كبريائه أو عن تعاليه بعيدا عن العجب بنفسه! وهو مقتنع بوجاهة مطلب أحد مواطني بلده، أو مطلب إحدى مواطنات بلده. عليه أن يستحضر -وهو المثقف المعدود بالخصوص من الإسلاميين- ما يعرفه من أحاديث سيد الناس, فلا يقطع الرحم، وإن كان يعاني من ضغط "النفس الأمارة بالسوء"! وليتجنب الدخول في جدل غير محمود مع "النفس اللوامة". هذا إن كان راغبا في الرحيل إلى ربه وهو جذلان، برفقته نفسه المطمئنة الراضية المرضية! إنه لا شك يعرف ثواب من عفا عمن ظلمه؟ وثواب من بادر إلى التواصل مع من قطعه لمدة قد تطول وقد تقصر؟ وثواب من يتفضل على أخ له في الله بإعطائه ما يعلم أنه في أمس الحاجة إليه؟ والعطاء الذي نقصده هنا غير مادي بالمرة، إنما هو التفاتة واجبة من أخ كريم إلى أخ كريم مثله، بحثا عن أحواله أو طلبا للاطمئنان عليه، خاصة متى وصله خبر تعرضه لنزلة مرضية شدية كانت أم خفيفة؟ ونحن هنا ننقل من الواقع ما شاهدناه وعرفناه ووقفنا عليه، وتأكدنا منه. فأن تسأل صديقا لك عن صديق لكما لتعرف السبب الذي وراء قطعه للاتصال بك، ثم يخبرك بأنه يعاني من مرض ألم به، فتسرع إلى مهاتفه لمرات عدة، لكنك لم تتلق منه مجرد تحية! فما الذي يفهمه من قوله سبحانه: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"؟ ثم هل هذه السلوكات الواقعية تفيد الربط فعلا بين الطب الوقائي البدني والطب الوقائي الروحي؟ قال سبحانه: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" فدل كلامه عز وجل على أن المؤمن الذي صدق بقلبه ونطق بلسانه، لا بد أن يستقيم كي يصح إيمانه الذي يزيد وينقص من خلال السلوك، أو من خلال الأعمال. نعم قد يمارس الطب الوقائي البدني كما أوضحناه. ولكنه مقصر في ممارسته للطب الوقائي الروحي الذي يجعله من ضمن المخاطبين بقوله سبحانه: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم". يعني أن الولاية لله الحق تتمثل في العلم والعمل. في الأقوال والأفعال. في الامتثال للأوامر الإلهية التي يتقدمها الاقتداء بسنة رسول الله. هذه التي تعلمنا كيف نكون أولياء لله بالفعل. مما يعني أن كل تلكؤ عن القبول بالآيات وبالأحاديث القطعية الثبوت والدلالة، سلوك أو تصرف، يساهم في التقليل من درجة الولاية. فإن مجد الله العقل ودعا إلى اعتماده في البحث والتقصي، ثم يبرز أمامنا من يعارض مناقشتنا بالعقل لموضوع بعينه، ولدينا من الحجج ما يكفي، ينزعج منا إن نحن رفضنا التسليم برأيه الذي أراد فرضه علينا. وهذا النوع من المقابلات الجدلية، كانت وراء قطع حبل التواصل بيننا وبين من نكن لهم التقدير الفائق. مشفقين عليهم للعجز الذي أصاب عندهم عمليتي التخلي والتحلي من جهة. وعملتي الولاء والبراء من جهة ثانية. فإن كنا على نفس الدرب نسير، فلنتذكر العلاقة التي كانت تجمع بين الصحب الكرام البررة، والتي كانت تجمع بين التابعين، والتي كانت تجمع بين الأئمة والمحدثين، فقد سيطرت عليهم المقولة الحديثة بالظهور: "الخلاف لا يفسد للود قضية". لقد كان عمر بن الخطاب -كباقي الصحابة- يجتمع بمن أتيحت لهم فرصة الاجتماع به، فيأمر بعضهم بقراءة سورة من القرآن، أو بقراءة بعض الآيات من سورة محددة. ثم يأخذ الحضور -بعد كف القارئ عن قراءته- في الإدلاء برأيهم حول موضوع، أو حول الموضوعات التي يتناولها المقروء. فيحصل مرارا تعدد التفاسير التي يتقدم بها كل صحابي على حدة. فيتم استحسان إحداها دون أن يشعر أصحاب غيرها بالغبن أو بالتنقيص من قيمة ما تقدموا به من تفاسير أو من تأويلات. ثم يفترق المجتمعون، ويستمر التواصل بينهم لغياب الحزازات المتولدة عادة عن اختلاف في الآراء. وأذكر هنا أنني حاورت أحد المنتمين إلى طريقة صوفية، يدعي شيخها أن رسول الله هو الذي رتب له أورادها في اليقظة! وأنه يحضر في مرحلة من مراحل الذكر ليذكر مع الفقراء ذكرهم الجماعي إلى حين ينتهون! فقد سألته عما إذا كان رسول الله قد توفي أم لا؟ فلزم من أحاوره الصمت المطبق! لأنه لا يعرف كيف يجمع بين كون الرسول قد مات، وبين كونه رتب الأوراد في اليقظة لشيخ طريقته! والحال أن الله عز وجل خاطب نبيه بقوله: "إنك ميت وإنهم ميتون". وبقوله: "أفإن مت فهم الخالدون"؟ ثم نجدنا أمام من ينسبون العصمة إلى الأولياء، وقبلهم إلى التابعين -وهم كذلك أولياء- وقبلهم إلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين -وهم كذلك أولياء- حتى إذا ذكر أحدهم صحابيا دون الدعاء له بالصيغة المعروفة "رضي الله عنه" نظر إليه نظرة شزراء! وكأنه ترك واجبا فرض عليه الدين أداءه؟ والحال أن العلماء اختلفوا حتى بخصوص الصلاة على رسول الله. هل هي واجبة مرة واحدة في العمر أم هي واجبة في كل وقت وحين؟ أم إن خيار الصلاة عليه في أي وقت متروك لكل مؤمن على حدة؟؟؟ إن العلاقة إذن بين الطب الوقائي البدني، مرتبطة أشد ما يكون الارتباط بالطب الوقائي الروحي. فأن نبلغ الغاية في الطب الأول، لا يعفي من ربط العلاقة الدائمة بينه وبين الطب الثاني، في محاولة للتقدم صوب إتقان العمل الديني المطلوب. وذلك لأن أخي الذي يجاهد في صفي، وأجاهد أنا في صفه، لجعل كلمة الله هي العليا، لا أشوش عليه وهو منهمك في تحضير الأسلحة التي يعتمدها لمواجهة الخطر الداهم الذي نحاول كلنا دفعه. فإن كان النقل يستدعي تدخل العقل حين التعامل معه، فلأن للعقل قيمة في الدين الذي نسعى جميعنا إلى توظيفه. لكن توظيفه لا يتوقف على الإتيان بالنصوص الموثقة، كانت مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله، أو كانت مأخوذة من كتب أسلافنا علماء الأمة. إنما يتوقف توظيفه كذلك على فهم الواقع للتأكد من سلامة ما يتحرك فيه دينيا على جميع الأصعدة. فضلا عن كون التسليم بكل ما عبر به الأسلاف عن واقعهم الذي ولى، يعد عائقا إن نحن تعصبنا له، ما دامت أمامنا أدوات لتجازوه أو لتصحيح فهمه، محتفظين دوما بالأصول المعتبرة التي لا محيد عنها بأي وجه كان. فالإمام مالك بن أنس، يعتبر عمل أهل المدينة أصلا من أصول فقهه، إلى حد أنه يرد حديثا صح عند غيره بالعمل الذي فتح عليه عينيه. فهل نقول: إنه أخطأ لكونه رد الحديث الصحيح في موضوع محدد؟ أم نقول أنه أصاب؟ وإن قلنا إنه أصاب، فهل يجري العمل بالحديث الذي رفضه عند إمام آخر غيره؟ بحيث إن الحضور العقلي في المناقشات الفقهية والكلامية حضور لا مفر منه؟ لكن أن يتم العيب على مالك من طرف إخوانه في الاجتهاد الفقهي، يعتبر إجحافا في حقه؟ وبالتالي يعتبر تنقيصا من وجاهة اجتهاداته في الفقه والتفسير؟ ولنقس على ما قيل، حسب تعبير النحويين واللغويين؟ أخيرا ليطهر باطنه كل من يرغب في أن يتكامل مع تطهير ظاهره، بحيث تكون سلوكياته ترجمة حقيقية لسرائره. وإلا ما صح عده من الدعويين، وإن كتب عشرات الكتب؟ أو سود آلاف الصفحات بما يفهم منه أنه يدعو فعلا إلى الله على بصيرة؟؟؟