هوية بريس – الإثنين 04 يوليوز 2016 الاختلافُ سرٌّ من أسرار الحياة، ولا يُمكِن تَصوُّرُ المأساة التي قد تَنجُم عن محو هذه الظاهرة الحيويَّة، التي تَشمَل كلَّ الكائنات الحية من أدناها إلى أعلاها، فوجوده دليلٌّ على "الفرادة" والذاتيَّة، وعلى التدافُع والمواجهة والتناظُر، الذي عن طريقِه تَتفجَّر الحياة ألوانًا من المذاهب، وتَتفتَّق عن أشكال من المشارب والمناهج، وتَتفرَّع عن أنواع من الرؤى والمواقف، وذلك سرٌّ من أسرار الحياة غَرستْه العنايةُ الإلهية؛ لِتنْمو وتَستمرَّ وتَتطوَّر. والتاريخ الإنساني منذ آدمَ -عليه السلام- إلى الآن وليدُ هذا الاختلاف بخيره وشرِّه، وبدون هذه الحركيَّة لا يكون هناك تاريخ ولا مَعنًى للحياة، وهو يُخبِرنا عن تَضارُب الأمم والأفراد والحضارات؛ تَضارُب بالأجساد والسِّلاح، أو الأفكار والأقلام، فكلَّما حَدَث جُمودٌ في العقول أو النُّفوس، إلا وكان الاختلاف دافِعًا من دوافع الحركة والتَّجدُّد والتَّطوُّر؛ ذلك أنَّ الحقائق ما كانت لِتتمخَّضَ من تِلقاء نفسِها، وما كان الخير ليُسفِرَ بوجْهه على الناس، إلا بعد لَأْيٍ من التَّدافُع والتَّضارب كنتيجة ظاهرة لما هو عميق مَكنون في بِنية الحياة، ألا وهو سرُّ الاختلاف. وفي حضارتنا الإسلامية -وبرؤية مَوضوعيَّة عادِلة- دلائلُ لا تُحصى على احترام هذا المبدأ الحيوي، الذي آمَن به المسلمون وهم في أَوْج قوَّتِهم وعزِّ سُلطانِهم، كان يَجول في أعماق نفوسهم أنَّ التدافُعَ سبيلٌ من أهمِّ سُبل الحياة في تَدفُّقِها واستمرارِها، وأُسٌّ من أُسس تطوُّرِها وتنوُّعِها. أقول هذا الكلام وأنا أتابع ما يقع على الساحة الثقافية والفكرية في هذه الأيام وأخص بالذكر برنامج "صحوة" الذي يستضيف المفكر والباحث الدكتور عدنان إبراهيم وما أحدثه من ردود أفعال يتسم أغلبها بالفوضى وتبادل الاتهامات بين أنصار الرجل وخصومه على مواقع الأنترنيت والصفحات الفيسبوكية، خاصة بعد أن دخل على الخط الساخن بعض علماء السعودية (هيئة كبار علماء السعودية) وتحذيرهم مما يعتبرونه ضلالات عدنان إبراهيم ومطالبتهم بالرد عليه… وهكذا بدأت دعوات تطالب بمناظرة بين عدنان إبراهيم وأحد ممثلي علماء السلفيين خاصة… وفي غمرة هذا الصراع والتضارب وردت على أسئلة متنوعة تطلب رأيي بخصوص المنتوج الفكري للدكتور عدنان إبراهيم… ورأيي حول المناظرة التي يطالب بعضهم بعضا بإنجازها والإعلان عنها؟؟ فأقول وبالله التوفيق: المنتوج الفكري للدكتور عدنان ابراهيم 1- أجدني أمام مشكلة وازنة عندما أريد تقييم المنتج الفكري للدكتور عدنان إبراهيم… والسبب هو انه لا توجد لديه أصول مكتوبة، وعندي أن الأصول المكتوبة من المحكمات في فكر أي مفكر أو عالم، محكمات لأنها محصورة العدد، منضبطة لأصول الكتابة تحريرا وتحقيقا وموضوعية ( ذكر المراجع والمصادر بطريقة علمية مثبتة )… كما أن المكتوب يكون ألزم لصاحبه بحكم توفره على مقومات التأمل والبحث والتسويد الأولي والمراجعة قبل التحرير النهائي… أي انه ليس خاضعا لعامل الزمان الخطي او التيهان الكلامي… مثل الخطب والمحاضرات الشفوية… إضافة إلى إن المكتوب أيسر في معرفة مراحله التاريخية التي أنجز فيها ولا يمكن التلاعب بها.. بعكس الشفويات والمصورات التي قد تكون تواريخها مضطربة ويجوز التلاعب بخطها الزمني… فلا ندري أي الأقوال هو الأول وأيها هو الثاني… بترتيب زمني يكشف سيرورة الفكر والموقف لدى صاحبها… وهو الذي يقع بالنسبة لتقييم كثير من الباحثين لفكر الرجل اعتمادا على أشرطته المصورة التي لا ندري قبيلها من دبيرها… خاصة وأنها كثيرة متنوعة… تصيب الباحث الموضوعي الراغب في تقييم عادل لفكر الرجل ومواقفه دون شطط أو ظلم.. وهذا الأمر من اشد أخطاء الدكتور عدنان… فلو انه كان يكتب لكان أحسن حالا له وللباحثين والنقاد… 2- أقبح ما ارتكبه الدكتور عدنان انه تناول شخصيات صحابية بطريقة وأسلوب هجومي ظالم في كثير من الأحيان… خاصة موقفه من الصحابي معاوية بن أبي سفيان رحمه الله… وأشد ما أنكره عليه هو انه عند الحديث عنه يلغي الكثير من طرق تفكيره العقلانية (كالاجتهاد في رد بعض الروايات حتى وان كانت صحيحة عند علماء آخرين و تحريه الضبط التاريخي وتحقيقه في القضايا الفقهية الخلافية…)… حيث يصبح فجأة مقلدا لأقوال وردت في روايات اضعف بكثير من التي يردها أحيانا… ويتمسك بأحداث تاريخية لا تصح عنده هو نفسه لو طبق عليها معاييره المتشددة، وهذا كثير في خطبه ومحاضراته (مثل رواية شرب معاوية للخمر أو بيعها).. ولا يجد لمعاوية رحمه الله أي عذر في اجتهاداته الفقهية مثل مسألة اتهامه بالتعامل بالربا… وكثرة طعونه عليه اعتمادا على روايات مبتورة أو موضوعة أو لا يقين فيها… 3- تضمن منتوجه الفكري الذي اطلعت على نماذج كثيرة استماعا ومشاهدة على تناقضات منهجية مثل ما وقع لابن عربي الصوفي… فهو سلفي، اشعري، معتزلي، صوفي عقلاني، صوفي خرافي، مجتهد في قضايا إلى التطرف مقلد في أخرى إلى حد التطرف… مما يصاب متابعه بدوار معرفي لا يجعله يقر على قرار… ولعل هذا من آثار إكثاره من الخطب والمحاضرات… حتى يضرب عدنان إبراهيم في مواقف، عدنان إبراهيم في مواقف أخرى… 4- تموقعه بين منطقة مضببة الملامح طرفاها مذهبان متناقضان (شيعي /سني)… إضافة إلى زخمه المعرفي المشهود له به، مما يوقعه في التشتت المنهجي حيث تتداخل المعارف بطريقة عشوائية احيانا.. وهذا من تجليات اعتماده على الإنتاج الشفوي… فيتشتت ذهن مستمعيه وقد تختلط عليهم الأمور فيقومون عنه كما دخلوا أول مرة… أو يفهمون من كلامه عكس ما يريد أو مشوها لما يريد… وهذا ما استغله منتقدوه حيث يركبون أشرطة تكشف عن تناقضاته.. مما لا يعطيه فرصة الكشف عن الناسخ والمنسوخ والسابق واللاحق من كلامه، وهذا من تجليات اعتماده على الأسلوب الشفوي إطلاقا… 5- يتميز الرجل بسيولته المعرفية واطلاعه الواسع وجمعه بين معارف متنوعة وانطلاق لسانه وتوقد ذهنه وفكره، وقدرته على تفتيت موضوعاته وتجزيئها ومعالجتها وإعادة تركيبها… بطريقة فعالة… إلا في ما يخص موقفه من بعض الصحابة كمعاوية رحمه الله حيث يعمل بآلية الانتقاء… فيقع في مثل صنيع من ينتقدهم هو نفسه.. وهذا منه غريب… والخلاصة: كما أن للرجل تحقيقات مفيدة ومواقف نافعة وآراء تجديدية حسنة إلا أن له أخطاء عقدية أحيانا أو تاريخية أو فقهية… وقد تصل إلى حد خطير أو ملتبس… وهذا ما جعل الناس تختلف فيه ببن مؤيد ومعارض… بخصوص المناظرة المرئية السمعية 1- في رأيي أن المناظرة مع الدكتور عدنان خاصة من التيار السلفي… ستكون غير ذات جدوى… لأن موضوعاتها ستكون شاسعة المساحة… عقيدة وتاريخا وفقها وفكرا… كما أن هناك اختلافا قويا بخصوص الزاد الثقافي لكلا الطرفين… فالسلفي (بالمفهوم المعاصر) غالبا يعتمد على الثقافة التراثية القديمة بينما الدكتور عدنان يضيف إليها معارف العصر بتشعباتها مما يمكنه من حساء معرفي يختلف عنه لدى خصمه… ومن ثمة سيتعادلان في آخر المطاف… حيث ستكون الغلبة لمناظره السلفي تارة وتارة تكون له الغلبة حسب تموقع كل واحد في مجال يتقنه أحدهما دون الآخر… ففي المعارف التقليدية… قد تكون الكفة في صالح السلفي… وفي المعارف العقلانية الفكرية ستكون كفته راجحة… وقد تتداخل المغالبة بينهما… فلا راجح ولا مرجوح… 2- وبناء على ما سبق ستتحول المناظرة ولو بعد حين إلى مضمار لتبادل التهم والقذائف الفكرية والفتوية والمذهبية… مما يكون شرا عليهما معا… دون فائدة تذكر إلا لخصوم الطرفين… إما الشيعة المتطرفون أو العلمانيون المأدلجون أو الصليبيون المتربصون.. 3- وهناك إشكال آخر يتعلق بزمن المناظرة… وموضوعاتها… فحلقة أو حلقتان أو ثلاث حلقات… لن تكون كافية… لأن مضمار الموضوعات المبحوثة سيكون واسعا شاسعا… وبحكم تجربتي لو أخذنا فقط موضوع علم الحديث وأصوله… سيحتاج إلى حلقات وحده… فإذا اتجهنا إلى التاريخ وأحداثه..، فتلك مدحضة زلقة ستسيخ فيها الأرجل إلى الركب… فما بالك بالتصوف والعقيدة والانثروبولوجيا والمعارف الجديدة… إنه فضاء لا حدود له… فما هو الحل؟ في نظري أنه ينبغي على المناظرة ألا تكون سمعية بصرية بل مناظرة كتابية مؤصلة تخضع للمعايير العلمية تنشر تباعا في موقع رئيسي… مع تحديد الموضوعات بدقة متناهية… حيث تعالج الأساسيات والرئيسيات والأصوليات بدل الفروع وفروعها… وأن يلتزم المتناظران بأخلاق المناظرة كما حددها كثير من الباحثين القدماء والمحدثين، دون الدخول في متاهة الشخصانيات أو المهاترات العقدية أو الطائفية… مع فتح المجال في حدود معقولة لأنصار الطرفين للتحشية أو التوضيح أو التعليق أو الاستدراك… فتكون المناظرة مدرسة فكرية علمية تتلاقح فيها الأفكار وتتمحص بها المناهج وتتجدد. وأخيرا أدعو جميع الأطراف التي تتداخل مع هذا الموضوع وتهتم به ألا يتخذوه مجالا للسب والقذف والتكفير والظلم… وأن يتذكروا أن الغاية هي التوصل إلى مقاربات وتسديدات تكون أقوم وأجمل واشمل… وليست الغاية هي المغالبة والمناكفة والاستعداء… ويتذكروا أن صحيفتهم ستسجل كل صغيرة وكبيرة… وأن أمامهم العرض الأكبر بين يدي الخبير العليم فيحاسب كلا حسب نيته وغايته وعمله… (ولذكر الله أكبر)… والله يهدي إلى السبيل… والحمد لله.