المُؤثِرونَ قِلّة وكذلك أهلُ الفضل، وقد كان شيخي وصديقي الأزهَريّ عبد الرحمن النحوي أحدَ هؤلاء وابنُ أحدِهم؛ لذلك كان سهلاً عليه إيثاري بصُحبةٍ شيخ أحببتُه في الله ورجوتُ لقاءَه منذُ أمَدٍ صلّينا المغربَ جماعةً ثم خرجنا وخرج الشيخ من غرفته فالتقينا في المَمَرّ أمام المصعد في الطابق الثاني… كان بيتُ جورج جرداق يرنّ في مسمَعي: صُدفةٌ أهدتِ الوجودَ إلينا وأتاحَت لقاءَنا .. فالتقَينا مَدَدتُ نحوَه يدي احتفاءً فتلقّفَها بحرارة وأثنى بابتسامته المعروفة مُرحّبًا ترحيبا قدّمني له عبد الرحمن فأثنَى وأطرى مُعدّدًا صفات أتمنّى أن تكون بِي فعلا، وهذا من حسن ظنّه وكريم خلقه رَبَتُّ بِيُسرايَ على يمناهُ وقلتُ: يا شيخنا إنّني اليومَ أحرَى من ابن هانئ الاندلُسي بقول كانت مُساءلَةُ الرُّكبانِ تُخبرُنَا عن جعفر بن فلاحٍ أطيَبَ الخبرِ ثُمّ التقينا فلا واللّهِ ما سمعتْ أُذني بأحسن مما قد رأى بصَري فابتَسم وقال بارك الله فيك، ثمّ دعا لي ونزلنا بالمصعد نحو الردهة حيث كان ثمة أُناس كثر، صافحهم والتقطوا صورا تذكارية معه جماعات وفُرادى ركب شيخُنا في سيارة الجيب السوداء وكان الشيخ عبد الرحمن النحوي يقود وأنا بجانبه ورغم لهفتي لمحادثة الشيخ الكَمَلي سِوَى أنه ليس من أدب المرافقة المُبادرةُ بالكلام قبل أن يفتتحَه ولو بسؤال عابر أو تعليق، فرحّبتُ مرة أخرى وتمنيت له الإقامة الطيبة ولُذتُ بِصَمتي وانتظاري لكنّ فِطنةَ الشيخ كانت جليّة فافتتح الكلام قائلا بالحرف: ما يؤلمني وانا في عاصمة شنقيط [استخدم اسم شنقيط بدَل موريتانيا]، مايؤلمني هو رؤية واجهات المحلات التجارية والمطاعم باللغة الفرنسية، ثمّ أردَف بنَبرةٍ أقوى إن الفرنسيين لا يستحقون أن نحفظ لهم لغتَهم وأن نُعْلِيها هكذا، ووصف لغتَهم بأضعف وأفقر اللغات اللاتينيّة.. جاريتُه في الموضوع مُستشهدا بكلام الشيخ ولد عدود رحمَه اللهُ الذي يسمّيها لغةَ sous، مستدّلاًّ بمصطلحات فرنسية مُركّبة عليها: كالطُّرفة والشّعار والابتسامة …إلخ Sourir, souvêtement, souvenir…..exrt ثم أثنَيتُ على عِلمه ولُغتِه واسلويه وقدرته في استحضار الشواهد والتّتِمات في محاضراته ثم قلتُ مُشاغِبا -غفر الله لي- أراك انتصرتَ لجرير على الفرزدق في محاضرتك عن النقائض؛ مستشهدا لجرير بقوله: أَحلامُنا تَزِنُ الجِبالَ رَزانَةً وَيَفوقُ جاهِلُنا فَعالَ الجُهَّلِ أعددْتُ للشعراءِ سُّماً ناقعاً فسقيتُ آخرَهم بكأس الأولِ إِنّي اِنصَبَبتُ مِنَ السَماءِ عَلَيكُمُ حَتّى اِختَطَفتُكَ يا فَرَزدَقُ مِن عَلِ أَخزى الَّذي سَمَكَ السَماءَ مُجاشِعاً وَبَنى بِناءَكَ في الحَضيضِ الأَسفَلِ رغم تعالِي الفرزدق في قوله: إنّ الذي سَمَكَ السّماءَ بَنى لَنَا بَيْتاً، دَعَائِمُهُ أعَزُّ ..وَأطْوَلُ بَيْتاً بَنَاهُ لَنَا المَلِيكُ، ومَا بَنى حَكَمُ السّمَاءِ، فإنّهُ لا يُنْقَلُ حُلَلُ المُلُوكِ لِبَاسُنَا في أهْلِنَا وَالسّابِغَاتِ إلى الوَغَى نَتَسَرْبَلُ أحْلامُنَا تَزِنُ الجِبَالَ رزانة وَتَخَالُنَا جِنّاً، إذا مَا نَجْهَلُ أنصَت الشيخُ لي حتى انتهيتُ فتبسّمَ ضاحكا ولَم يَدفَع التهمة عنه… توقّفنا أمام فندق آتلانتيك ليلتحق بنا الشيخُ الخليل النحويّ ثم انعطفنا نحو مقر جمعية قلوب محسنة، لم نستطع إيصال السيارة للبوابة لكثرة السيارات وفوضية التوقف، فنزلنا وقطعنا عدة أمتار مشيًا على الشارع وسط زحام بشريّ كبير، وأشتدّ التدافع على الشيْخَيْن النحويّ والكَمَلِيّ حتى اعتلَيَا المنصةَ الرسمية إلى جانب ضيوف آخرين يبدو أن المنظمين بذلوا جهودا كبيرة ورائعة في تَزيينِ المكان وتوفير الإضاءة والضيافة اللائقة: حليب طازج وتمور وحلويات ومشاريب، ونظام جلوس مميّز لكن … لم يكن من اللائق أن يحاول أحدُ المنظمين فرضَ شالٍ يحمل شعار الجمعية على الشيخ، ما اضطرّ هذا الأخير لرفضه بشكل صريح كما لم يكن المُقدّمُ موفّقا في تهجيّة اسم الضيف، ولم يكن أبدا من اللائق مقاطعته لأي سبب مهما كان، خصوصا أن التبرع مسألة فردية وليس هذا مكان إعلانها ولا طريقته على الأقل في وجود ضيوف وكان الشيخ الخليلُ فَطِنًا ظريفا لبيبًا في تلطيف وتجاوز الهنات والأخطاء المراسيمية وقد كانت الفوضى أكبر والزحام والتدافع أقوى؛ لحظة خروجنا من الجمعية، بدَا الحرَجُ علينا جميعا والتضايق في وجه الشيخين رغم محاولتهما الدائمة إبقاء الابتسامة على وجهَيهِما … بعد جُهد كبير من المرافقين من الشباب جزاهم الله خيرا استطعنا الوصول للسيارة والركوب فيها، بادرتُ بالاعتذار وإبداء الحرج قائلا: أرجو ان تعذرونا فنحن شعب طيّب ونحتفظ ببداوتنا و لا نزال على فطرتنا في كل شيء: مقاطعتنا الحديث وتدافع الناس ومحاولتهم العناق والتلامس كل هذا إظهار للترحيب والحب، قال الشيخ هذا شيء طبيعيّ وأعرف أنه مجرد ترحيب واحتفاء، أخذ الشيخ الخليل النحوي الحديثَ واستهله بأن الله إذا أحبّ العبدَ ألقى محيتَه في قلوب عباده ثم دار حديث عالِ المقام بينهما فاستمتعنا بالإصغاء… انطلقنا نحو فندق السلام على البحر حيث كان ثمة عشاء رسمي على شرف الضيوف بحضور الوزير والامين العام وعدة مسؤولين سامين كان كل شيء في المكان فخمًا إلا تصرفاتنا، الأكل بشكل بِدائي، عناق الجميع للجميع، محاولة مسؤولين كبار التقاط الصور على طريقة السيلفي، عدم احترام المساحات الشخصية للضيوف، الانتقال بين الطاولات، الضحكات الصاخبة التي لاتناسب العشاءات الرسمية ….إلخ لم نمكث هناك طويلا إذ يبدو أننا وصلنا متأخرين …. كان الشيخ الخليل قد انشغل بضيوف آخرين وترتيبات أخرى عدنا ثلاثتنا الشيخ الكَمَليّ وعبد الرحمن وأنا…. قلتُ شيخنا ألا ندعوكم لخيمة بدوية ونحلب لكم نُوقًا على طريقة العرب الأُوّل! فتبسم وقال سأخبرك بشيء عجيب قلت وماهو؟ قال: لقد شربتُ لبن الإبلِ لأوّل مرة في حياتي هنا في أم القرى عند العلاّمة محمدسالم ولد عدّود، وقد حسبتُ الحليبَ مُحَلًّى، فأخبروني أنه ليس كذلك؛ ثم شربتُه بعد ذلك في الخليج وبلدان عربية أخرى فما عرفت أطيبَ ولا ألَذّ من حليب الناقة في أم القرى، ولم يزل طعمه في فمي إلى اليوم قلتُ لعلها نُوقٌ لم تُعلَف علَفًا صناعيا ولم تُحقَن بعَقاقير بيطرية قال بل هي حلاوة الذِّكر والعِلم وبرَكة الشيخ عدّود، قُلتُ: هو ذاك والله؛ وإنّ في آل المُبارَك لَأحلى ولِأني أعشق طريقة الشيخ الكَمَلي في إلقاء الشعر وإشباع الحروف ادّعيتُ جهلَ تتِمة أبيات ابن الإطنابة التي قال معاوية رضي الله عنها أنها أثنته عن الفرار يوم صِفّين، استنشدتُه إياها فأعاد الحديث وأنشد الابيات كما ورد في البداية والتهاية لابن كثير: قال سيدنا معاوية ابن ابي سفيان: دعوت بفرسي لأنجو عليها فلما وضعتُ رجلي في الركاب تذكرتُ أبيات عمرو بن الإطنابة: أبَتْ لي عِفّتي ..وأبَى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيحِ وإجشامي على المكروه نفسي وضربي هامةَ البطل المشيح وقولي كُلّما جشأت وجاشَت مكانك ..تحمدي أو تستريحي لأدفَع .. عن مآثرَ صالحاتٍ وأحمى بعدُ عن عرض صحيح بذي شطب كَلَونِ الملح صافٍ ونفسٍ.. ما تَقرّ على القبيحِ يقول سيدنا معاوية ثم قلتُ لعمرٍو: يا ابن العاص، اليوم صبر، وغدا فخر. كانت الساعاتُ مُوغلةً في الركضِ والمسافة تُطوَى كطَيّ السّجلّ للكتاب، لِحُسن الرفقة وحلاوة الحديث وطلاوته ثم وصلنا وكان في رُدهة الفندق عشرات الأشخاص أخذوا رُبعَ ساعة من الشيخ ثم صعدنا نحو الطابق الثاني فأوصلتُه غرفتَه والتمَستُ دعاءَه ودِدتُ لو استزيد، ولكن الوقت سافرٌ في تآمُره، وَدّعتُه بما تيَسّر من اندهاش وما وَرَدَ مِن عينِيّة ابن زُريق البغدادي: وَدّعتُه وبِودّي لو يُودّعُني صَفوُ الحياة وأني لا اُودّعُهُ وكَم تَشبّثَ بي يوم الرحيل ضُحًى وأُدمُعي مُستَهِلاّتٌ ..وأَدمُعُه لا أكذِبُ اللهَ ثوبُ الصبر مُنخرِقٌ عنّي بفُرقتِه، … لكنْ أُرَقّعُهُ.