كما نعلم جميعا، فإن فعل الترافع يأتي به كل شخص منا، سواء من أجل أموره الشخصية أم من أجل قضايا عامة مشتركة مع الغير؛ ولذلك فإن تحقيق نتائج إيجابية من ورائه يتطلب، بدون شك، سلك المنهج المناسب والسليم؛ وقد يوجد منا من يربط تلك النتائج بمدى تفاعل الأطراف الأخرى، ولا يجعلها تقتصر على طريقة الترافع فقط، وهذا مما لا نختلف حوله، فضلا عن شرعية أو مشروعية ما نطالب به، لاسيما عندما يتعلق الأمر بقضايا الأمة ومصالح الشعب؛ لكن ما يجب التركيز عليه في حالة دراسة أفعالنا هو مدى استجابتها للمنهج السليم والصحيح، ما يعني أن الأمر يقتضي، حسب كل ظرف، نهج أسلوب ما، بعيدا عن رد أسباب الفشل للأطراف الأخرى، ولو أن دورهم في تحقيق ما نطالب به ذا أهمية. حتى لا نرهق أنفسنا، ونحن نقدم على فعل الترافع، لابد من إدراك كنه الشيء المترافع عليه، والسياق الذي تزامن معه، مع تحديد كل الأطراف ذات الصلة به، وإلا صرنا نترافع من أجل الترافع لا أقل ولا أكثر؛ وبما أن مجالات الحياة متعددة ومختلفة، فإن الحديث بشكل عام عن الترافع قد لا يفي بالغرض المطلوب؛ وعليه، فإننا اخترنا المجال الذي يكثر فيه الترافع، ويهتم به العام والخاص، وهو الذي يتمثل في الترافع السياسي؛ وهذا لا يعني أن باقي أنواع الأخرى غير مهمة، وإنما لكون هذا الترافع، في نظرنا، لا يقتضي مسطرة خاصة كما هو معمول به في مجال القضاء مثلا، حيث هناك مساطر وإجراءات معينة يجب سلكها وإلا اعتبرت مسطرة الترافع غير مقبولة. علاقة بما سبق، يتبادر إلى ذهن كل واحد منا، كيف يجب أن يكون الترافع السياسي؟ بل قبل ذلك نطرح سؤالا: هل حقا لا توجد إجراءات خاصة للترافع السياسي، كما هو الحال للترافع أمام القضاء أو بعض المؤسسات الإدارية؟ فضلا عن سؤال جوهري يتمثل في تحديد مفهوم الترافع السياسي. قد نختلف في تحديد تعريف خاص بالسياسة، وبالتبع سنختلف عن مفهوم الترافع السياسي؛ لكن تفاديا لأي نقاش حول المفاهيم وتجاذباتها، سنكتفي القول بأن قصدنا بالترافع السياسي في هذه المساهمة هو ذلك الفعل الذي يقوم به رجل السياسة وهو يدعي الدفاع عن مصالح الأمة والشعب أمام أصحاب القرار؛ حيث يكون رجل السياسية يحمل صفة رسمية أو غير رسمية، كأن يكون ممثلا في إحدى المؤسسات المنتخبة أو يكفي أن يكون ناشطا باسم حزب سياسي أو غير ذلك، بل إن هذا الترافع قد يقام باسم مجموعة أفراد أو منظمات. أما أصحاب القرار، يُقصد بهم كل جهة لها القدرة على تحقيق ما يتم الترافع عنه من طرف رجل السياسة؛ ومن البديهي جدا، قد يكون الشخص صاحب قرار ويمارس الترافع في نفس الوقت؛ بمعنى أنه قد يكون رئيس جماعة ترابية أو عضو بمؤسسة تشريعية وغير ذلك، أي أنه يملك صلاحيات بتلك الصفة التي اكتسبها ويتفاعل مع مرافعات الغير ويترافع لدى جهات أخرى في آن واحد؛ وعليه، فإن هذا الصنف من الشخصيات يجب في حقهم اتقان فن الترافع، لأنه من الطبيعي والمنتظر منهم إدراك كنه الفعل السياسي. وعليه، إن كانت أغلب المؤسسات المنتخبة، وفق ما تقتضيه القوانين المنظمة لعملها، قد حددت طرق التواصل بين مكوناتها، وكذا إجراءات الترافع وتدبير الشأن العام، إضافة إلى أن بعض النصوص القانونية تطرقت حتى لطريقة تواصل المؤسسات المنتخبة فيما بينها مفصلة جميع الإجراءات المسطرية، فإنه رغم ذلك لا يمكن اعتبار كل ذلك هو الوسيلة الوحيدة للترافع عن مصالح الشعب؛ ذلك أن عالم السياسة لا تحكمه قواعد محددة، بل يصعب حتى بعض الأحيان الاحتكام إلى المبادئ المعلن عنها من طرف السياسيين، كما لا يمكن لإجراءات مسطرية ضيقة استيعاب الفعل السياسي، لأنه عالم شاسع وغامض ويخضع لعدة اعتبارات. قد لا نختلف على أن أهم شيء يحكم الفعل السياسي ويتحكم فيه هو موازين القوى وسنة التدافع والتنافس على الريادة، أو قل: البقاء للأقوى والاقتتال على المصالح والمطامع وحب التسلط على الآخرين؛ وعليه، فإن رجل السياسة الناجح لا يمكن له إغفال ذلك وهو يحاول الإقدام على ممارسة الفعل السياسي، سواء كان صاحب قرار يريد تنفيذ برامجه أو كان في الجهة الأخرى بصفة المترافع عن المصالح العامة؛ وبالتالي، فإن ممارسة بعض الإجراءات المنصوص عليها قانونيا بشكل حرفي، في ضوء ما يحكم عالم السياسية من الاعتبارات التي ذكرناها، قد يعيق عملية الترافع التي نحن بصدد الحديث عنها. كما يقال بالمثال يتضح المقال، فإن ممثل الشعب في المؤسسة التشريعية يقوم بمهمته الأساسية، المتمثلة في العمل التشريعي ومراقبة العمل الحكومي، من خلال فعل الترافع السياسي، وفق ما هو منصوص عليه في القانون أو النظام الداخلي للمؤسسة (مجلس النواب أو مجلس المستشارين)؛ غير أن سلك تلك الإجراءات بشكل دائم خلال الترافع عن بعض القضايا وفي سياقات سياسية محددة يعتبر دليل ضعف على مستوى الوعي السياسي لدى البرلماني؛ لأنه ببساطة لا يأخذ بعين الاعتبار ما أشرنا إليه سابقا، وهو مسرف، في طرح الأسئلة الكتابية والشفوية. وهذا يعني أنه بتلك الطريقة يُشعر صاحب القرار بنوع من المنافسة على الريادة أو الموجه لسياسته وغير ذلك، لاسيما إن تزامن مع سياقات سياسية غير عادية، أو قل: العمل على إحراج صاحب القرار ومحاولة إظهار ضعفه، وهو الأمر الذي لا يقبله رجل السياسة بشكل نهائي، وقد يجعله يرفض كل أمر حسن، لاسيما في الدول غير المتقدمة؛ بل تجده يفعل المستحيل ليُظهر نفسه على صورة الرجل السياسي القوي والملهم الذي يعرف مصلحة الشعب أكثر من أي شخص آخر، والمدافع عنه بشكل حصري؛ ذلك أن السياسة في نظر الكثير من ممارسيها هو الصراع على البقاء في مراكز القرار، ومحاولة الترقي في المناصب والمسؤوليات وليس التقهقر الذي يمثل الموت، لأن البقاء لا يكون إلا للقوي. من المؤكد، أن غاية كل سياسي هو إظهار قوته في الترافع وإثبات ذلك لغيره، لاسيما من انتخبه، غير أن ذلك لا يجب أن يكون ضد مصالح من يُدافع عنهم، خصوصا عندما يتعلق الأمر ببعض القضايا الأساسية التي لا تقبل التأجيل، لأن سوء الترافع هو عين العمل ضد المصلحة العامة، أي جعل صاحب القرار يرفض كل شيء كما سبقت الإشارة؛ بمعنى أن الترافع السياسي يجب أن يأخذ طريقا غير اتباع تلك الإجراءات المسطرية، كأن يدخل في مفاوضات إن رأى السياق السياسي مساعدا، بعيدا عن أضواء الإعلام، أو المهادنة، أو ما يمكن تسميته تجاوزا "التملق السياسي" دون السقوط في الابتذال السياسي وهكذا، لأن لكل ظرف حكمه وطريقته؛ بل إن السياسي الناجح هو من يبدع في الترافع كل مرة حسب ما تقتضيه موازين القوى دون أن يعيق تنفيذ المشاريع التنموية ولا أن يسقط في الانتصار للذات على حساب المصلحة العامة. وعلى سبيل الختم، نقول: إن ممارسة السياسة بقدر حاجتها لشخص ذكي يدرك مفهوم السياسة كما يُكتب عنها في الكتب، فإنها بأمس الحاجة لشخص يحسن فهم الواقع والسياق العام الذي يعتمده في تحديد طريقة الترافع وكذا آليات تنزيل برامجه إن هو امتلك القرار؛ فضلا عن أن الفعل السياسي، في كثير من الأحيان، يحتاج لشخص يتقن فن الصمت، بدل الظهور، كل يوم، بوجه الحارس الشخصي والممثل الرسمي للشعب كأن في الساحة السياسية (على المستوى الوطني، أو محلي أو الجهوي…) رجل وحيد يعرف مصلحة الشعب ويدافع عنها، ولسان حاله يقول: "أنا أترافع عن الشعب إذن أنا موجود وغيري معدوم". وأخيرا نقول: يا من تمثل الشعب وتدعي الدفاع عن مصالحه كفى من إثبات ذاتك بكثرة الخرجات الإعلامية، لأنها وسيلة غير فعالة إلا لممارسة الشعبنة (أو الشعبوية) والاختفاء وراء البطولات الكلامية التي لا يرجى منها خير للأمة، واعلم أن مكانتك السياسية الضعيفة تقتضي الإبداع في الترافع السياسي الحقيقي بعيدا عن تلك الوسائل المتجاوزة ولو بدت ذات شرعية ومشروعية زائفة. اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.