جاء في الحديث النبوي الشريف: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، كان هذا التقرير في معرض الحديث عن تأبير النخل، لكنه يحمل إرشادا للعباد على ضرورة احترام التخصصات، فالعالم في الشريعة ليس بالضرورة أن يكون أفقه الناس بالطب أو الكيمياء، أو الاقتصاد ونحوه. لا بد للمجتمع من تكامل الجهود، واتساع نطاق التخصصات لسد احتياجات الناس في شؤون الدين والدنيا، فمن ثم لا بد من احترام هذه التخصصات. إن المرء ليدرك ذلك بوضوح في اعتماد الفتاوى الشرعية على أقوال أهل الخبرة، فكثير من الفتاوى تُبنى مثلا على رأي الأطباء، كما في حالات الإجهاض وغيره، مما تؤثر فيه الحالة الصحية بالحكم الشرعي، كما يرجع المفتي في خرْص المحاصيل إلى أهل الخبرة والاختصاص، وهكذا في كل مجال. وليس هذا فحسب، بل شدّد الشارع النكير على اقتحام الإنسان ما ليس في نطاق علمه وتخصصه، كما قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم)، وجاء في الحديث كذلك «من تطبب ولا يعلم منه طب؛ فهو ضامن»، فيكون لجرأته على الخطأ وتعديه على الناس، ظالما مستحقا للعقوبة، وضامنا لما حصل بسببه من التلف أو العطل. وهذا ما يتضح كذلك في ثنائية العالم والقائد في الحضارة الإسلامية، العالم يضبط قرارات القائد التي تحتاج إلى ضبط شرعي، لكن لا يتدخل في خططه العسكرية والأمور التي من شأن القادة، والقائد بدوره لا يتصدر للإفتاء، إلا إذا كان هو من أهل التخصصين معا، وهو ما لم يتكرر كثيرا في التاريخ. وإنا لنرى إجماعا من عقلاء العالم على احترام التخصصات العلمية، ونبذ من يتكلم في غير تخصصه، وهذا ما يقتضيه العقل والمنطق ومصالح العباد، فكيف يتكلم في فيزياء الكمّ من لم يدرسها، وكيف يخوض في علوم الفلك من لم يخض غمارها! لكن بالنظر إلى علوم الشريعة، نجدها مشاعا بين الناس، ويتقدم للخوض في مسائلها الدقيقة كل ذو شهرة، وإن لم يكن من أهل الاختصاص، حتى صارت الأحكام والفتاوى مادة للتداول وإبداء الرأي بين الإعلاميين والسياسيين والفنانين والمطربين، وانقلبت الجرأة على الأحكام الشرعية لعامة الناس بالتبعية ودوام التلقي، فلماذا نحترم التخصصات في أشكالها كافة ونستثني علوم الشريعة؟ علوم الشريعة كسائر العلوم، لها أهلها الذي يملكون أدوات الخوض فيها والتحدث عنها إلى الجماهير، هذه العلوم لها أصولها كما لكل علم أصله، فمن تكلم في غير فنِّهِ أتى بالعجائب، كما قال العلماء. هناك من يعترض على ذلك بقوله، إن دين الإسلام ليس كهنوتيا ثيوقراطيا ينوب فيه البشر عن الله، ولهم أن يأخذوا دينهم من دون واسطة بشرية، ومن ثم من حق أي إنسان أن يفسر النصوص وفقا لما آل إليه إعمال عقله. وهذا لا شك من الخلط البيّن، فأهل الاختصاص من العلماء لا ينوبون عن الله، فلا يحرمون أو يحلون من تلقاء أنفسهم، بل هناك أحكام شرعية واضحة بالنصوص قطعية الثبوت والدلالة، ينقلونها للناس كما جاءت، وأمور أخرى لم يرد فيها نص، أو هي من قبل المتشابهات، أو المستجدات والنوازل، فحينها يجتهدون وفق القواعد المستنبطة من الشريعة لا وفق الأهواء، والقرآن ذاته يؤكد الرجوع إلى أهل العلم في هذا الشأن «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ». العقول ليست واحدة، واتجاهات التفكير ليست واحدة، والذي يتكلم في العلوم الشرعية من تلقاء نفسه وبهواه من دون أن يستند إلى أصول هذه العلوم ومنطلقاتها، إنما يعبث بهوية تتعلق بالملايين. نعم من حق كل إنسان أن يتحدث عن الدين بالنقل، وليس بالاجتهاد، لأن الأخير مرده إلى أهل الاختصاص، فكما جاء في الأحاديث (بلغوا عني ولو آية)، (نضّر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى له من سامع)، أما الخوض بغير علم في الأحكام والاجتهاد من غير أهل الاجتهاد، فهو مسلك تخريبي، وأشد منه من يطعن في الثوابت والقطعيات انطلاقا من استحسانه وهواه، ومع الأسف الشديد أصبح شيئا ظاهرا رائجا. إن من شأن الخوض في الأحكام الشرعية بغير علم، وإبداء الآراء من غير أهل الاختصاص، أن يؤدي إلى التطرف، فعندما يرى الشباب المتدين هذه التجاوزات وصيرورة الأحكام الشرعية ألعوبة على هذا النحو، فإن كثيرا منهم قد يندفع ويتهور، وتصير هناك فجوة بينه وبين مجتمعه، ويتعدى ذلك إلى اتخاذه موقفا عدائيا تجاه الأنظمة التي تسمح بمثل هذا الشطط، مع أن هناك مؤسسات رسمية دينية، موكولا إليها أمر الفتوى وتعليم الناس، ينبغي أن يقتصر عليها الحديث في الفتاوى والاجتهادات دون غيرها. وإن مواقع التواصل الاجتماعي التي تعتبر مرآة للرأي العام واتجاهات التفكير لدى الشعوب، ينعكس عليها بوضوح هذا الانفلات في الخوض بالأحكام الشرعية والفتاوى لغير المختصين، فأصبح هناك الملايين الذين يجهلون علوم الدين يدلون بآرائهم في قطعيات الشريعة وكلياتها، وتصدر عنهم جرأة غريبة في إصدار فتاوى من تلقاء أنفسهم في مسائل لا يستطيعها إلا جهابذة العلماء ومن كان له باع في علوم الشريعة. إننا نطالب فحسب، أن تُعامل علوم الشريعة معاملة سائر العلوم التي يقتصر الخوض فيها على أهل الاختصاص، وأن تترك المسائل الشرعية من أحكام وفتاوى لأهل العلم بالدين، فهذا مطلبٌ يقرره العقل والمنطق السليم، ويُجنب المجتمعات كثيرا من الفتن، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.