نتساءل مرة أخرى قبل الإجابة: هل فعلا يمكن اعتبار المجلس الوطني لحقوق الإنسان مجلسا وطنيا؟ وتساؤلنا هذا ليس من قبيل الرد على المخالف في الفكر والعقيدة، وإنما هو تحقيق لمعنى كلمة "وطني"، فإذا رجعنا لنشأة الكلمة نجد أن مصطلح "وطني" دخل إلى الحقول التداولية المعرفية المغربية في سياق تاريخي معين، وهو تاريخ الاحتلال الفرنسي العلماني لبلادنا، فقد كان "المعمرون" يطلقون كلمة الوطنيين على كل المغاربة، باعتبار أنهم أصحاب البلاد الذين يملكون الأرض، في مقابل المحتلين الذين كانوا يسمون أنفسهم ب"المعمرين"، هكذا كان في بداية الاحتلال، ثم لما أصدر هذا الاحتلال العلماني الظهير البربري، وقام ضده المغاربة قاطبة، بدأ يتشكل مفهوم جديد لمصطلح "وطني"، وهو كل شخص مغربي مسلم يقف في وجه الاحتلال المعتدي ويدافع عن الهوية. والهوية هنا لن ندرك معناها إلا بالرجوع إلى كتابات النصف الأول من القرن العشرين والتي تعني التشبث بمقومات الدين بالأساس، ثم الانتصار للغة العربية لما لها من ارتباط بالإسلام والقرآن وتشكلات الهوية منذ دخل المغاربة في الإسلام. فالوطنيون من أمثال علال الفاسي في فاس والمكي الناصري في سلا والرباط، والفقيه داوود في تطوان، والمختار السوسي في سوس، وغيرهم كثير من العلماء والأساتذة الذين سجنوا وعذبوا والفقهاء الشعراء الذين قتلوا في السجون مثل العلامة محمد القري وكذا عموم النخبة، لم يتنازلوا طيلة نضالهم وجهادهم ضد المستعمر عن الدين واللغة، باعتبارهما أساسين ودعامتين للكينونة المغربية، معتبرين ألا وجود للهوية بدونهما. وبهذا المفهوم للهوية أخذ أول دستور مغربي 1962، وانتظر بعد ذلك المغاربة اتخاذ التدابير اللازمة لملاءمة القوانين العلمانية التي أرساها المستعمر وبنى عليها الدولة الحديثة في المغرب لمقتضيات الفقه المالكي، ولم تر النور إلا مدونة الأسرة التي كانت تسمى مدونة الأحوال الشخصية، في حين لم تلاءم باقي القوانين الفرنسية وحلت اللجنة التي كانت مكلفة بذلك، وذلك لكون التيار المغربي الذي تربى في حجر الاحتلال كان له رأي آخر، رأى أن ذلك سيخل بالاستقلال التوافقي الذي عقد في سان كلو بعد مشاورات إيكس ليبان. ليتطور مفهوم الوطني بعد الاستقلال وتنامي الحضور العلماني الدولي في المغرب، فتصبح دلالة "الوطني" تتسع حتى لأعداء الهوية والدين، والآن أصبحت الهوية المغربية مهددة بالاضمحلال النهائي إذ يراد لها أن تكون بلا لغة ولا دين، بل بلا معنى، وذلك في ظل عولمة المفاهيم العلمانية التي صنعتها الرأسمالية المبنية على مفهوم الحرية كما أرساه فلاسفة الثورات العلمانية وطورته الليبرالية المتطرفة من خلال تسلطها على المنظمات التي أنشأتها للتمكين لنموذجها الحضاري الذي أطلقت عليه زورا نعت "الدولية". وبهذا أمكن أن نفصل التراب/الوطن عن الهوية والدين، فصار كل ما هو داخل التراب المغربي وطنيا بالضرورة، ومن ذلك المجلس الوطني لحقوق الإنسان. وما تقدم هو المدخل الذي سنناقش فيه سؤال العنوان. أمينة بوعياش استضافها حزب التقدم والاشتراكية في سياق دعم المطالب العلمانية التي يترافع عنها عبد اللطيف وهبي مستغلا منصبه وزيرا للعدل لينوب عن أقلية صغيرة كبيرة النفوذ، في تعديل قانون العقوبات، ليتوافق مع مقتضيات العلمانية الدولية. فخطبة أمينة بوعياش في مقر حزب الكتاب، له رمزيته الخاصة وله دلالته البليغة في سياق التعديلات المحتملة على المدونة والقانون الجنائي، فحزب التقدم والاشتراكية هو حزب علماني شرس له تاريخ في محاربة الأفكار والشرائع الإسلامية، وهو الحزب الذي تزعم الدعوة لتجريف ما تبقى من أحكام الشريعة وما يخالف المفهوم الغربي العلماني للكون والإنسان والحياة في المدونة والقانون الجنائي، من خلال تقديمه لمشروع خطة إدماج المرأة في التنمية إبان التسعينيات من القرن الماضي. فكون بوعياش تخطب بنفس المطالب في هذا الحزب وهذا السياق، فالأمر لا يخلو من رمزية تدلنا على أن ما تم رفضه في السياق السابق من طرف المجلس العلمي الأعلى ورابطة علماء المغرب والتيارات الإسلامية، سيفرض اليوم على المغاربة في ظل هذا الإفلاس السياسي الذي تم فيه تحييد العدالة والتنمية، وتجريد الرابطة المذكورة -بعد أن تم تغيير اسمها- من وظيفتها التي من أجلها أنشأها العلماء، وتكبيل المجلس العلمي الأعلى بالحرج السياسي، هذا المجلس الذي يترأسه أمير المؤمنين ويقوم كبير العلماء (الدكتور يسف) بمهمة الأمانة العامة فيه. ففي ظل هذا السياق لا بد أن نسمع بوعياش تطلق البارود في وجه الأسر المغربية المسلمة (تاتبورد) مزهوة وهي تقول: "On rate pas l'occasion" "ما نخسروش هذ المناسبة اللي عندنا اليوم، ما نخسروهاش". هي تعلم أن السياق تغير وأن الجبهة الإسلامية الرسمية اليوم ليس لها من يمثلها سوى إمارة المؤمنين التي تعيش الحرج الكبير الذي يتسبب فيه وكلاء الدول الغربية في المغرب. نعم هم وكلاء الدول الغربية وليسوا مغاربة يدافعون عن الحقوق والحريات الخاصة بالشعب المغربي، فهم ينوبون عن أمريكا وأوروبا، والدليل على ذلك أنهم لا يملكون أي صلاحية ولا استقلالية في الاعتراض أو الدفاع عن رأي مؤسسة دستورية مثل المجلس العلمي الأعلى، ويقتصرون على الدفاع والتمكين لما تأمر به المنظمات الغربية من توصيات. وهذا واضح في كلمة بوعياش عندما تقول مفسرة اهتمامات مجلسها بالتعديلات اللازمة على القانون الجنائي: "بطبيعة الحال مهمتنا وانكبابنا واهتمامنا بمضمون القانون الجنائي لأنه هو التفاعل الإيجابي والفعال، وتفعيل التوصيات ديال الآليات التعاقدية ديال الأممالمتحدة، أو الاستعراض الدولي الشامل، وخاصة أن الاستعراض الدولي الشامل مؤخرا أعطانا 306 توصية نقول 80 في المائة منها كلها متعلقة بالحقوق والحريات". انتهى الأمر بالنسبة لبوعياش ومن معها مادامت التوصيات الأوامر وصلتنا فعلينا الإذعان، لا مناقشة لا كلام، نعدل القوانين ونستجيب. ثم تردف لتعزيز قوة الأوامر الخارجية قائلة: "عندنا كذلك اتفاقية مناهضة التمييز ضد المرأة التي كانت خلال السنة الماضية كذلك مرتبطة بالعنف وبالمساواة داخل الأسرة والمساواة في عدد من المجالات، فإذا هذه التوصيات تهمنا من حيث ملاءمتها وتهمنا من حيث تفعيلها في القانون الجنائي". حاضر السيدة أمينة نلائمها، صافي ما تبقاي غير على خاطرك، لكن أجي؛ هل نلائمها وإن خالفت معلوما من الدين بالضرورة مثل الإرث؟ بطبيعة الحال الجواب هو نعم! نظرا لأن الدستور يقول بسمو المواثيق الدولية. أجي واش المواثيق الدولية أسمى من القرآن أ القايد بوعياش؟ الجواب الكل يعرفه. من هنا جاء التساؤل حول وطنية هذا المجلس: هل يمكن أن ننعت مجلس حقوق الإنسان في المغرب بالمجلس الوطني؟؟ يمكن كذلك أن نستشف الجواب مرة أخرى من فم بوعياش رئيسته وفي اللقاء ذاته: "الإشكال الحقيقي في نظري الذي يعرفه القانون الجنائي يتجلى في تغييب رؤية حقوق الإنسان في قانون مرتبط بتدبير الحقوق والحريات، غياب تام لتلك الرؤية الحقوقية لممارسة الحقوق". ثم زادت بيانا: "هناك رؤية ملتبسة بين القانون والحماية ديالو سواء بالنسبة للمقتضيات المباشرة، ولا المبنية على خلفيات، هناك كذلك مقتضيات مبنية على خلفيات إيديولوجية أخلاقية لغوية، لكيجعل بأن القانون الجنائي ما عندوش واحد المرجعية واضحة، عندو تعددية المرجعيات، بما أن عندنا تعددية المرجعيات شوية ديال حقوق الإنسان شي شوية والأخلاقية والدينية (أشارت بيدها لتقول كثيرة) اللي كاتخلينا واسعين وملتبسين". نحن بدورنا متفقين معها على مشكل اضطراب القانون الجنائي بفعل تعدد المرجعيات المتدخلة في صياغته، لكن كيف يمكن أن نحسم في إشكالية المرجعيات واختلافها؟؟ هل نحذف كل المرجعيات ونُبقي على المرجعية الإسلامية المنسجمة مع هوية المغاربة الدينية والتاريخية؟؟ وبالتالي ما نبقاوش واسعين وملتبسين؛ أم ماذا؟؟ الجواب من بوعياش دائما: "المشرع المغربي الذي يتردد أحيانا في اتخاذ الموقف وفي اتخاذ القرار لأسباب انتخابية ولأسباب أخلاقية لأسباب مجتمعية أظن بأنه اليوم هو في وضع مريح يمكن له أن يتخذ الموقف الواضح بخصوص هذه الإشكالات". فالوضع المريح قد ذكرناه سابقا، فما هو هذا الموقف الواضح؟؟ لقد صرحت بوعياش مرارا بضرورة ملاءمة القوانين للمواثيق الدولية وإعلانات حقوق الإنسان التي ترى في العلاقات الجنسية علاقات مشروعة مباحة لا يجب أن تجرم، والسكر واللواط حرية فردية، وقوانين الإرث شكل من أشكال التمييز ضد المرأة، أما الإجهاض وقتل الأجنة فهو حق للمرأة في جسدها، وتسميه الإيقاف الطبي للحمل غير المرغوب فيه. وهلم تزويرا وكذبا! إذًا، الحاصل إذا تم تمرير القانونين بالتعديلات المطلوبة فبوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان وهو مؤسسة دستورية، تريد من إمارة المؤمنين أن تضع خاتمها الشريف على قانون جنائي يستحل الحرام جهارا نهارا، وتطالب الدولة وعلى رأسها الملك أن يتخذ قرارا حاسما وموقفا صريحا، وألا يقوم بما قام به الملك الحسن الثاني مع مشروع سعيد السعدي المتقدم ذكره والذي سبق أن رفع المطالب نفسها، التي تفرضها العلمانية الدولية. إن المغاربة ينتظرون تطمينا لهم من طرف الجهات الرسمية الساهرة عن حماية الملة والدين، بعد هذه التهديدات التي يستقوي أصحابها بالخارج، مستغلين ما جرى بعد الربيع العربي وعقدي الحرب العالمية على الإرهاب والتي تم توسيعها لتشمل الكثير من أحكام الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.