سبق وأن تعرضنا لمادة أولى عن العلمانية تطرقت لتعريفها ونقلها للغة العربية، إضافة لثلاث وجهات نظر لمغاربة أثاروا العلمانية كمفهوم.. ونواصل ضمن هذه المادّة الثانية الحديث عن ذات التوجّه بسؤال استهلالي يهمّ الصلاحيّة بالنسبة للمغرب. هل يصلح المغرب بلدا علمانيا؟ بنية الدولة المغربية متأرجحة ما بين العصرنة، بوجود مؤسسات كالبرلمان والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للقضاء، وكذا التوجه التقليدي، بأداء المجلس العلمي الأعلى ومكانة الملكيّة كإمارة المؤمنين وتأثير الزوايا، أنتجت على الدوام جدلا بشأن إمكانية أسلمة الدولة أو علمنتها. وهناك يتحدث منار السليمي عن المغرب باعتباره دولة إسلامية ليست مدنية علمانية، فالدستور لا يكتفي فقط بالإشارة إلى أن "الإسلام دين الدولة" وإنما يوجب أن تكون الاتفاقيات الدولية التي يصادق عليها المغرب "متلائمة مع الهوية الوطنية الراسخة التي يشكل الدين الإسلامي أحد دعاماتها" يقول المحلل السياسي ويضيف "العنصر التأسيسي للسلطة السياسية في المغرب هو البيعة قبل الدستور المكتوب، والسلوكيات السياسية لرئيس الدولة داخل المؤسسات فيها حضور كبير للجانب الديني". غير أن السليمي يعود ليؤكد وجود إمكانية للدولة ذات المرجعية الإسلامية في أن ترتبط ببعض الممارسات المستمدّة من العلمانيّة، مع مراقبتها، وأنه من الممكن أن تتعايش داخل نفس المنظومة القانونية نصوص ذات طبيعة وضعية ونصوص مستمدة من المرجعية الدينيّة، وهي حالة موجودة في المغرب، على حد قوله، "من الممكن أن تكون هناك بعض الممارسات الفردية من هنا وهناك شرط الخضوع والامتثال لسقف القانون" يفيد السليمي . أمّا عبد الجبار القسطلاني، عن حزب العدالة والتنمية، فيرى أن العلمانية لا يمكن تبينها في المغرب.. فالنظام المغربي، في نظره، مختلف تماما عن أنظمة طبقت العلمانية كالنظام الفرنسي أو التركي، على اعتبار أن المغرب قائم على أعمدة من بينها الأساس الديني المقدس الذي لا يمكن الالتفاف عليه نصيّا، والملكية بالمغرب تتوفر على شرعية دينية تاريخية جعلت العامل الإثنيّ حاضرا في ممارسات تدبير الدولة المغربية منذ تأسيسها، وبيعة الحكام كانت تتم بالمعيار الديني على حد تعبير نفس المتحدّث. ويرى القسطلاني أيضا أن المغاربة متمسكون بالشأن الديني، وأن المقاومة المغربية توحدت ضد الاستعمار باسم الدين.. غير أنه أكد وجود مرونة من الدولة في تطبيق القوانين التي تتعلق بالحريات الفردية، ووفق قوله فإن الدولة لا تتدخل إلاّ عند "إثارة الفتن التي من شأنها خلخلة النظام العام للبلد"، كما أنه يعتبر اجتهاد ديني "يجب أن ينطلق من الثوابت للحفاظ على استقرار المغرب". غير أن أحمد عصيد يعتبر الدولة المغربية مزدوجة، فيها جوانب علمانية طاغية على التشريع الديني، لأن القانون الوضعي هو السائد على جميع المستويات.. وهنا يقول عصيد أن التشريع الوضعي يجعل الإسلاميين والمحافظين متذمرين ومشتكين دائما، غير أن ازدواجية الدولة تظهر أيضا من خلال رأس الهرم السياسي بتبرير الحكم على أساس إمارة المؤمنين، كما تظهر باستغلال الدين من طرف الإعلام العمومي لخلق ذهنية دينية تابعة للمخزن، يقول الناشط الأمازيغي. يرى عصيد أن تحول المغرب لدولة علمانية من شأنه أن يجعله بلدا ديمقراطيا ويحل جميع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، ويورد أنّ "تفكيك اللوبي المخزني، الذي يفرض سلطته باسم الدين، سيفكك أيضا اللوبي الاقتصادي الذي ينهب الثروات"، ويزيد أن كل أنواع الفساد بالدولة أصلها النسق الإستبدادي الذي يعتمد على الدين، ومن شأن العلمانية أن تجعل المواطن المغربي يحاسب السلطة ولا يخضع لها حسب عصيد. ويمشي إسماعيل حمودي في نفس الاتجاه تقريبا حين يقول إن المغرب يستخدم نموذجا علمانيا مشوّها، فالدولة المغربية في نظره غير محايدة إزاء الدين وإنما تستغله في صراعها السياسي من أجل البقاء، وهي علمانية غير ديمقراطية، ما يجعلها دولة مستبدة ومتسلطة، والحل حسب حمودي "تكريس علمنة الدولة كي تصير ديمقراطية، والعكس صحيح، على أساس أن الدين هو رسالة المجتمع والأمة هي التي تحميه"، يقول الصحفي ذاته. هل العلمانية تضمن حقوق الإنسان أفضل من الإسلام؟ المتأمل للوثيقة العالمية لحقوق الإنسان يقر بوجود بعض الاختلافات المفصليّة بينها وبين القوانين والتشريعات المستمدة من الشريعة الإسلامية، وكمثال على ذلك فإنّ الفصل 1 من المادة السادسة لذات الوثيقة ينص على أنه "للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين"، وهو ما يتعارض مع الدين بحسب قول بعض الفقهاء الذين يحرمون زواج المسلمة من غير المسلم، وهناك أيضا المادة 18 من نفس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإثارتها أنّه "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته"، وهو الفصل الذي يناقض بعض نصوص الدين الإسلامي التي تحكم بالقتل على كل مسلم غير دينه كحد للردة. ويقول الناشط العلماني قاسم الغزالي إن السلطة السياسية في المغرب هي من تتحكم في المسجد، فتحرر خطب الجمعة، وتكلف من تشاء بمهمة الخطابة وتنزعها ممن تشاء دون رقيب أو حسيب، وتعتقل من تشاء وتطلق سراح من تشاء، وتحارب الشيعة رغم أنها مذهب إسلامي، إلى ما غير ذلك من الانتهاكات لحقوق المسلمين رغم أن دستور الدولة ينص على إسلامية الدولة، أما إذا أردنا الحديث عن حقوق الغير مسلمين والأقليات بكل ألوانها فهنا نجد بأن الدولة تعمل على اضطهاد الأقليات ومنعها من الحق في التعبير وكل الحقوق الإنسانية الأخرى. ويضيف الغزالي إنّه لا يمكن حماية حقوق الإنسان وتطوير مفهومها في ظل حكم ديني يفرض الرجوع إلى أحكام حمورابي القديمة، الدول تتطور ومن العبث أن نبقى سجناء قوانين وأحكام ارتبطت بمجتمعات تقليدية قديمة، لا يمكن الحديث اليوم عن قتل المرتد أو بقر بطن اليهودية وفتح بلاد الكفار كما يريد أنصار الشريعة ودولة الخلافة، لأن هذا مشروع خطير ومن دون شك أنه سيجر ملايين الأبرياء من هذه الشعوب إلى حروب مع المجتمعات الأخرى. غير أن الحقوقية أمينة بوعياش ترى عدم ضرورة تحول المغرب إلى بلد علماني كي يتم ضمان الحقوق الإنسان به، فهذه الأخيرة كانت عبارة عن توافقات بين جميع الأديان، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان حاول الخروج بتصور يتوافق مع المبادئ العامة لجميع الأديان، تقول بوعياش قبل أن تزيد كون الدستور المغربي ينص على "إسلام منفتح ووسطي يسمح بالاجتهاد وباحترام اختيارات الجميع" خاصة منها حرية المعتقد الذي تراه المنظمة المغربية لحقوق الإنسان "مطلبا ضروريا ومستعجلا". أما عبد الجبار القسطلاني فهو ينظر إلى القوانين الإسلامية باعتبارها قائمة على الحرية لا الإكراه، ففي نظره للفرد الحق في اعتناق ما يراه مناسبا.. ويزيد: "عندما يتحول الأمر لإشهار من شأنه أن يخلق نوعا من الفتنة، فهنا يتدخل الدين لردع مسببي هذا الأمر بغية الحفاظ على استقرار الأوطان".. وأعطى القسطلاني مثالا بحد الردة الذي يراه "قطعي الوجود في الدين لكن تطبيقه يجب أن يخضع لمعايير مصلحة الأمة التي تقوم على لم الشمل"،هذا دون أن تفوته الإشارة للحديث عن كون الثابت في التشريعات، كعدم مشروعية زواج المسلمة من غير مسلم، لا يجب الخوض فيه ما دامت مثل هذه الأمور لا تخلق مشاكل كبيرة ولا تثير جدلا واسعا. آراء فايسبوكية في أسبوع للنقاش حول العلمانية أسبوع فايسبوكي سبق وأن تم تخصيصه لنقاش العلمانية، وتميز بجدية في تبادل الأفكار بين جميع المشاركين الذين وصل عددهم لقرابة ال 300.. ومنها: ميلود الخرمودي: إن إشكالية النظم السياسية هو أن اليسار يدير السياسة بعيدا عن هوية المجتمع وقيمه وبالتالي يبقى كالرغوة على الماء لا يستطيع النفاد إلى عمق الشرائح الاجتماعية، والإسلاميون يديرون السياسة بعيدا عن الديمقراطية والقيم الكونية التي أثبتت لحدود الآن أنها أحسن طريقة لتدبير علاقة الحاكمين بالمحكومين وهنا نطرح السؤال التالي في إطار التشابك بين الديني والسياسي في المجتمعات العربية هل يجب أن يكون الدين في خدمة السياسة آم السياسة خادمة الدين؟ الجواب على هذا الاستشكال سيقودنا بالضرورة إلى نوع من العلمانية التي تصلح لطبيعة هذه الكيانات لتلحق بالأمم المتقدمة، ففكرة العلمانية ليست جديدة في التداول الفكري والسياسي المغربي ومثلها مثل الديمقراطية تحتاج الى الفهم العميق والوعي بها. خلدون المسناوي: إذا نظرنا إلى العلمانية في التربة التي أُنتجت فيها، فإن الأسباب التي أدّت إلى بروزها في الفكر الأوروبي لم تحدث عندنا في المغرب، لأن الدين لم يسبق له أن كان مؤسسة في مجتمعنا، ووضع الدين عندنا ليس وضع الدين المتصارع مع المجتمع لديهم الذي أنتج العلمانية في أوروبا ، فالاستبداد في أوروبا كان يمارسه الدين المسيحي ك" مؤسسة "، إذن فكان من الطبيعي أن تبرز فكرة فصل الدين عن الدولة للخروج من القهر ، أما في المغرب فإنّ "العلمانية" باللغة الفلسفية المُعاصِرة من "اللامُفكّر فيه" في تاريخه، فتاريخنا ليس هو تاريخ أوروبا على الرغم من أن تاريخ البشرية واحد و أن الإنسان واحد، فكونية الحداثة لا تُلغي التنوع الفكري والثقافي للمجتمعات، ورؤية العالم واحدة و لكن الثقافة ليست واحدة الثقافة بل هي "متنوعة" وهذه هي مشكلة بعض الحداثيين الذين يفصلون الفكرة عن الواقع، إن أي تجديد لبنية العقل المغربي لا بد له أن ينطلق من واقع الفكر المغربي، وإلاّ سوف نتيه في "النقل" الذي لن نمس به سوى قشور الديمقراطية و الحداثة. كريم إسقلا: العلمانية كما أفهمها، هي انتفاء الوصاية على الفرد والمجتمع، بمعنى ألا يمارس شخص أو فئة مصادرتها لحق الآخرين في الاختلاف، سواء باسم دين أو فكر أو إيديولوجية أو لغة، بحيث أن الدولة القومية أو العسكرية أو الدينية هي في جوهرها مصادرة و نفي للآخر، الغريب أن مجتمعاتنا في معيشها أصلا تظهر مدنية "علمانية"، نتعامل ونتعايش مع كل الأجناس والأديان والمعتقدات، غير أن الدولة تريد أن تصادر هذا التنوع من المجتمع بحيث تفرض دينا ومذهبا معينا لما يحفظ لها استمراريتها ومصالحها، حيث أن مؤسسة المؤسسات تريد أن تجمع كل السلط الدينية والثقافية والعسكرية والاقتصادية والرمزية. نائلة حلتوت: العلمانية حين تكون جزئية تهدف لفصل المؤسسة الدينية عن باقي مؤسسات الدولة ثم تلزم الصمت حيال الأسئلة الوجودية ولا تتطرق إلى إشكاليات المنظومة القيمية و المرجعية و هي بالتالي تستطيع التعايش مع القيم الدينية و الأخلاقية، لكن المشكل أنه في الكثير من التجارب تتحول هذه العلمانية الجزئية إلى علمانية شاملة فتفصل القيم الدينية عن المجتمع ككل، ليصير معيار القوة هو الغالب، فالعلمانية متى صارت شاملة تصير غير مناسبة وتنسف كل أرضية مشتركة للحوار بينها و بين ثقافتنا و ديننا. بدر البقالي: العلمانية لا تقصي الدين بل تحترمه و تعلي من شأن القيم الدينية الايجابية، وذلك بالحرص على عدم تلويثه بالسياسة، وعدم تحويل الصراع السياسي إلي صراع ديني، وبالتالي، فالفصل بين الممارسة السياسية والممارسة الدينية ليست "زعزعة" للقيم الاجتماعية ونشر للإباحية، كما يروج لذلك دعاة الدولة الدينية في المغرب الذين يحاولون تشويه لفظ العلمانية. هل يوجد مكان للعلمانيّة فوق التراب المغربيّ ووسط مواطنيه؟ فتح النقاش بشأن العلمانية لا يمكن أن يجعلنا نصل إلى جواب قطعي خصوصا وأن المغرب عرف على الدوام جدلا عن الأوعية الفكرية لتدبير مصالح الأفراد والجماعات.. إلاّ أن ذات الجدل بمقدوره البصم على إخراج للأذهان من نفق الأحكام والتمثلات الجاهزة.. إلاّ أنّ الكثير من المحافظين يبقون غير قابلين لأي حوار عن العلمانيّة بداعي "صناعة الغرب لها"، فيما عدد من الحداثيين يحصرونها غالبا في نطاق الحريات الفردية وبخلط ما بين من هو مسلم علماني ولادينيّ علمانيّ.