قدمت للقارئ في مقالة سابقة، نشرت في هذا المنبر النبيل، نظرة عامة عن كتاب المنهجية المعرفية الإسلامية، محاولة في الإحياء، تأصيلا وتنزيلا للدكتور محمد السائح، أستاذ الحديث بكلية الآداب فاس- سايس. فقد تحدثت فيها عن حاجة قسم مشتهر من الفكر الإسلامي المعاصر إلى المراجعة الذاتية.. واعتبرت هذا الكتاب مثالا لهذه المراجعة المنشودة، إذ جعل محاولة إحياء المنهجية المعرفية التي كانت عليها الأمة قاطبة، إلى غاية ما قبل الاستعمار، المدخلَ السليم لنقد بعض مقولات هذا الفكر المعاصر. وذلك من خلال تنزيل تلك المنهجية، التي أصلها في القسم الأول من الكتاب، على جملة من القضايا المعرفية والواقعية التي طرحها في القسم الثاني منه.. كما لخصت القسمين معا: النظري والتطبيقي، مع بيان تلازمهما، والحذر عند نقدهما، من السقوط في فخ آفة مسلك التفكيك لهما. وخلصت في خاتمة تلك المقالة، إلى أن هذا الكتاب، بقوة بناءه الاستدلالي، يشكل مرجعا في بابه، ودليلا لا غنى عنه لطلبة العلم وللباحثين في أمر المنهج المعرفي الإسلامي. المحور الأول: لماذا فصل الثورة الأنثوية من الكتاب؟ ولمزيد من تسليط الضوء على مضامين الكتاب، وكذا بيان معالم التنزيل للمنهجية، اخترت قضية واقعية عالجها المؤلف في الفصل السابع من القسم التطبيقي، ألا وهي: قضية الثورة الأنثوية. وقد اخترت التركيز عليها لخطورتها من حيث واقعُها المرير، وكذا الآثارُ الكارثية المترتبة عليها. فب0عتبار الواقع الراهن، إن الأدلة على وجود ثورة أنثوية حقيقية ومخيفة – كما عبر المؤلف – لاحصر لها و من ذلك العري والتفنن فيه، والزنا وضياع الأمومة وفلسفة النوع والمناصفة.. وغيرها من صور الفساد الأخلاقي العميق. وقد نبه الكاتب إلى أن لهذه الثورة موقظيها ومسعري لهيبها حتى كادت تأتي على الأخضر واليابس. فالأمر ليس مجرد انفلات نسوة مائلات مميلات، بل الخطب أعظم وأكبر، فهناك أنظمة كبرى، ومنظمات وقوانين ودساتير دولية ومحلية، وإعلام وكتاب وفلاسفة، وشركات كبرى وصغرى.. وغيرها من الجهات، تعمل ليل نهار، على إيقاظ وتهييج هذه الفتنة العمياء.. أما من حيث الآثارُ الحالقُة لهذه الفتنة فهو المروق من نمط في العيش، يقول المؤلف، رسخته منذ بدء الخليقة، الشرائع السماوية، ودعوات الأنبياء والمرسلين ومن سار على نهجهم من الأولياء والصالحين. نمط تكون فيه المرأة جوهرة مكنونة يسارع إلى صونها الأب والزوج والأخ والأبناء وأبناؤهم والعم والخال.. وغايتهم العظمى ابتغاء مرضاة الله والفوز في الدار الآخرة.. وغير ذلك، من ألوان هذا النمط الأصيل التي ذكر بعضها المؤلف.. المحور الثاني: مظاهر تنزيل القسم النظري على قضية الثورة الأنثوية: إن الاستناد إلى بعض ما هو مذكور في كتب أشراط الساعة وأبوابها من دواوين السنة، لفهم هذه الثورة العارمة، مظهر من مظاهر التزام الكاتب بالمنهجية التي أصلها في كتابه. حيث قرر في القسم النظري أن الوحي( قرآنا وسنة) هو الأصل الأعلى للمعرفة الإنسانية، أكانت متعلقة بالوجود أو بالواقع أو بالتاريخ أو بالمستقبل، أو غير ذلك من صنوف المعرفة.. وكونه الأسمى والأسنى، لبراءته من احتمال ورود الخطإ أو الخطل عليه، حاشاه، فهو صادر من الله سبحانه، المتصف بالعلم والعزة والحكمة، وسائر صفات الكمال؛ ولله ذر من قال: كل نعمة فمنه لطفا، وكل كمال فله وصفا. كما قرر في الركن الرابع من أركان المنهجية المعرفية الإسلامية، قاعدة مفادها أن إنتاج المعرفة الإسلامية يكون بإعمال النصوص الثابتة كلها، دون استثناء بعضها، أو تعطيل الاستفادة منها، بمنع التأويل المشروع. ورجوع الباحث إلى أحاديث الفتن وأشراط الساعة لفهم هذه الثورة الأنثوية المجنونة، يُبِين عن ثبات ركن تمام الإعمال عنده، واهتزازه في المقابل، عند فريق من الفكر الإسلامي المعاصر، الذي يُورِد ثلاث آفات على هذا الركن، وهي: التعطيل والاقتصار والتشكيك، مما يجعل إنتاجه المعرفي قاصرا غير تام، وناقصا غير كامل. وقد شرح الكاتب هذه الآفات الثلاث، فليرجع إليها. كما أورد تسعة أحاديث تخبر تمام الإخبار، عن هذه الفتنة الضرَّاء؛ مع التنبيه إلى أن هذه النصوص المذكورة، بعضها صحيح وبعضها ضعيف، أما الصحيح، فلا إشكال كما يقول، وأما الضعيف، فمنه مايشهد له ما في الصحيح، ومنه ما يشهد له الواقع. وهذه بعض هذه الأحاديث الكاشفة لذي بصيرة: 1. (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء). متفق عليه. وأورد قول ابن حجر في الفتح: " وفي الحديث أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن". 2 . حديث فشو الزنا: ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأةً القَيِّمُ الواحد). متفق عليه. 1. ضياع الأمومة وشيوع الإجهاض: قال أبو هريرة رضي الله عنه، (لتُؤخَذَنَّ المرأة فليُبْقَرَنَّ بطنها ثم ليؤخذن ما في الرحم فليُنْبَذَنَّ مخافة الولد). رواه ابن أبي شيبة موقوفا. قال أهل العلم هو في حكم المرفوع. المحور الثالث: ثمرة هذا التنزيل: الثمرة الأولى: صوابية الحكم. إن الاهتداء بهذه النصوص الشرعية المعصومة، تبصِّر المسلم وطليعتَه المفكرة، بأن الصورة البراقة للمرأة الغربية المعاصرة، هي صورة خداعة، وفتنة حالقة للدين، ينبغي توقيها، وبؤسٌ يلزم الإشفاق منه وعليه، على حد تعبير الكاتب. ومن يجعل هاديه في هذه القضية، غير الوحي غدت عنده، تلك الصورة للمرأة، منتهى الآمال ومطمح الأنفس!؟ فخداع الحياة المعاصرة وبريقها يعمي الأبصار والبصائر عن إدراك الجواهر. الثمرة الثانية: صوابية المشروع. إن النظر، يقول المؤلف، في هذه النصوص المعصومة وغيرها، المخبرة عن أحوال المرأة بين يدي الساعة، يسدد المفكر الإسلامي وهو يصوغ مشروعه الإصلاحي لوضعية المرأة، ويجعله قادرا على إنقادها من حال الاستغلال لها في العالم كله، حتى في من يدعي أهله التحضر والحقوق. ويجنب هذا النظر أيضا، المشروع الإصلاحي الإسلامي، ومنه مشروع الحركة الإسلامية، من التأثر بالواقع المعرفي الغربي والذوبان فيه؛ كما هو الشأن مع بعض محاولات الدفاع عن حقوق المرأة في العالم الإسلامي. محاولات بلغت حد المطالبة بإبطال جملة من الأحكام الفقهية المقررة في باب الزواج والطلاق والإرث وغيرها، مع الاختباء وراء شبه مضللة، ذكر منها المؤلف، شبهة ذكورية الفقه. وقد أحسن لما نبه إلى الشيخ العلامة الفقيه الأصولي محمد التأويل رحمه الله، الذي فطن لهذه الشبهة، فأتى عليها من القواعد في كتابه المحرر المحقق: (لا ذكورية في الفقه). الخلاصة: حاولت هذه المقالة زيادة تسليط الضوء على الكتاب من خلال تحليل إحدى قضاياه الواقعية، كما حرصت على بيان تمسُّك الكاتب بتنزيل المنهجية التي أصلها على هذه القضية، وهي الثورة الأنثوية. وهذا ما جعله يطرح قضية المرأة المعاصرة طرحا بعيدا كل البعد، عن التأثر بالفكر الغربي المهيمن اليوم. كيف لا وهو لم يهمل، عند تحليل هذه القضية، ربع الدين، المنصوص عليه في حديث جبريل، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأماراتها. وقوله صلى الله عليه وسلم، في آخر الحديث: إنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم. فالساعة وأماراتها هي ما هو مذكور في كتب أشراط الساعة وأبوابها من دواوين السنة. ولذلك، فإن إنتاج المعرفة الإسلامية الحقة رهين بأمور، على رأسها تمام الإعمال لنصوص الوحي المعصومة، وهذا لا يكون إلا بمعرفة النقل، إذ هو الركن الأعظم في الاجتهاد، كما قال الإمام الحازمي. والحمد لله.