تشكل بطولة العالم في كرة القدم مناسبة لإذكاء الحماس الكروي بين البلدان المتأهلة للنهائيات، وتكون لغة المنافسة ونتائج المباريات وسؤال البلد الأكثر حظا للفوز بالكأس الثمينة هي الاهتمامات الكبرى المصاحبة لأطوار البطولة… لكن نسخة الكأس الذهبية التي تنظمها قطر هي أكثر من كأس وأكبر من بطولة عالمية. تتبعت شعوب الكرة الأرضية حفل افتتاح الدورة 22 من بطولة العالم التي تنظم لأول مرة في دولة عربية مسلمة. وكان الافتتاح الذي ارتأته قطر يعكس بحق رؤيتها الجديدة لبطولة العالم الذي قالت عنها إنها حلم شعب ومشروع أمة. لم يكن حفل الافتتاح كما عاهدناه في البطولات السابقة يهتم بكرة القدم فقط، وإنما هو حفل قبل كرة القدم، رسالة إنسانية للعالم في وقت تكون فيه بوصلة سكان الكرة الأرضية متجهة صوب دوحة العالم وليس دوحة قطر. إذا أردنا إعطاء عنوانا لحفل الافتتاح فإننا لن نجد أفضل من جملة في كلمتين: الاحترام والتسامح. هي جملة خفيفة على اللسان الكروي لكنها ثقيلة على الضمير العالمي. والحوار الذي دار بين النجم الأمريكي الكبير مورغان فريمان وسفير النوايا الحسنة القطري غانم المفتاح، كانت رسالة موجهة للعالم لأن الحوار كان بين ممثل الغرب وممثل الشرق. إنها رسالة تريد أن تنقل كرة القدم التي تجعل شعوب العالم تتكلم لغة واحدة، إلى رسالة تصل لكل الشعوب لكي تتحدث لغة واحدة عنوانها: الاحترام والتسامح. اللغة الجديدة التي تريد قطر من العالم أن يتكلمها جائت على لسان مورغان فريمان الذي قال في حوار الشرق والغرب "هذا شيء جديد ما عاهدته قبل هذا النداء…..أتذكر أنه بعد سماع النداء عوض أن نبحث عن طريق مغاير تخلينا عن الطريق وسلكنا طريقنا، وهكذا بدا العالم أكثر تباعدا وأكثر انقساما"، ثم يتسائل ممثل الغرب "كيف يمكن أن تجتمع عدة دول وثقافات إذا كان لكل واحد طريقته الخاصة؟" فيجيبه ممثل الشرق "نحن نشأنا على هذه الأرض شعوبا وقبائل لكي نتوحد"… ممثل الغرب يتسائل "أرى الآن أن ما يجمعنا هو أكثر مما يفرقنا، كيف يمكن أن نطيل التوافق أكثر وأكثر؟" فيجيبه ممثل الشرق "بالتسامح والاحترام يمكن أن نحيا معا تحت سقف واحد". ما ميز هذا الحوار وزاد من قوة رسالته هو المكان الذي تم فيه أي ملعب البيت. ملعب حداثي صمم على شكل خيمة عربية قال عنها ممثل الشرق "البيت هو خيمة البدوي، وحيثما وُضعت تكون بيتا للجميع، وحين ندعوك إلى هنا يكون بيتك" ويتفاعل معه ممثل الغرب " إذن نجتمع هنا كقبيلة واحدة والأرض هي الخيمة التي نعيش فيها جميعا". ويختم الحوار برسالة قطرية مشرقية واضحة "نعم أنت مرحب بك في هذه الخيمة والكل مرحب به هنا". الترحيب بالجميع كان على لسان شخص اختارته قطر من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي رسالة أكثر وضوحا لأصحاب الحملة الإعلامية ضد قطر بتوضيف المثلية الجنسية، مفادها أن هناك أولويات وأن قطر تنظر لأصحاب الاحتياجات الخاصة كأولوية قصوى. اللغة الجديدة التي تريد قطر أن تسود العالم من خلال تنظيمها لبطولة الكأس الذهبية، تتمحور حول ثلاثة دعائم كانت بارزة بشكل جلي في حفل الافتتاح: -1- رفض تنميط التقاليد والثقافات: عالمنا الذي نعيش فيه مكون من شعوب، ولكل شعب تقاليده وأعرافه وثقافته. وما دام العالم تلك هي تركيبته، فلا مجال لمحاولة تنميطه وفق ثقافة مسيطِرة تريد أن تكون نمطا حقوقيا كونيا يجب فرضه على كل شعوب العالم. ومن اعترض عليه فهو معرض لحملة تشويه قد تخرج عما هو مشترك بين شعوب العالم، لتصير سلعة في سوق الابتزاز والضغط من أجل مصالح اقتصادية. لقد تعرضت قطر لحملة غير مسبوقة تخص حقوق الانسان والعمال الذين قضوا في بناء المنشآت الرياضية. وإذا قارنا عدد العمال الذين قضوا في الورشات الرياضية واعتمدنا الرقم الذي تبنته المنظمات الحقوقية، نجده لا يصل للعدد الذي يقتله الكيان الصيوني في يوم واحد من شيوخ وأطفال في فلسطين، لكننا لم نسمع عن حملة ضد هذا الحق الطبيعي للإنسان الفلسطيني وهو الحق في الحياة. هذا الكيل بمكيالين هو ما دفع رئيس الفيفا للحديث عن النفاق الغربي بخصوص حقوق الإنسان، واستغلالها لتحقيق أهداف مالية واقتصادية. -2- دعوة لنشر قيم الاحترام: خلال الحملة التي تعرضت لها قطر قال أميرها إن قطر تحترم ثقافات الجميع وتطلب من الجميع أن يحترم ثقافتها وتقاليدها. كانت رسالة الاحترام واضحة في حفل الافتتاح، ومن أبرز تجلياته جلوس الممثل الأمريكي مورغان فريمان على الأرض بجانب أيقونة الحفل القطري غانم المفتاح. إنها إشارة رمزية لكنها رسالة قوية أبلغتها قطر لجميع شعوب العالم من خلال لغة كرة القدم التي يفهمها الجميع. إنها رسالة الاحترام والتواضع مع الآخر. -3- التسامح: هي الدعامة الثالثة في اللغة الكروية الجديدة التي تريد إبداعها قطر بتنظيمها للنسخة 22 من كأس العالم. العالم لا يمكنه أن يجتمع في خيمة البيت دون تسامح مع الجميع. لم تنجح الهجمة التي تعرضت لها قطر، والتي حولت المثلية الجنسية إلى سلاح تم استغلاله بشكل انتهازي من أجل ترويج صورة قاتمة على أول بلد عربي ومسلم ينظم كأس العالم. لم تتحدث تلك الهجمة الاعلامية عن البنيات التحتية التي أنجزتها قطر، ولا عن قدرتها على إنجاح هذه النسخة من كأس العالم. بل أكثر من ذلك، وباستعمال نية بئيسة وسيئة، قامت تلك الحملة بتمويه الرأي العالمي بأن كأس العالم كلف قطر 220 مليار دولار ومقارنة هذا الرقم مع تكلفة نفس البطولة في جنوب إفريقيا وفي روسيا. علما أن المسؤولين القطريين أوضحوا أن كأس العالم جزء من رؤية قطر الاستراتيجية 2020/2030 وأن تكلفة المونديال الحقيقية هي 8 مليار دولار وأن تقدير عائد هذه التظاهرة العالمية على قطر هو 17 مليار دولار. أما رقم 220 مليار دولار فهو المبلغ الاجمالي الذي يخص حاجيات المواطن القطري من وسائل النقل كالميترو والطرقات، وكذلك بناء المستشفيات والفنادق حيث تطمح قطر بلوغ 6 ملايين زائر لبلد يبلغ تعداد سكانه 3 ملايين نسمة فقط. قطر لا تدعي أنها الأفضل، لكنها في ذات الوقت ترفض أن تكون الأضعف. إنها صرخة الدول النامية لتقول بصوت مرتفع أن من حقها أن تتطور وتزدهر…من حقها أن تكون في مصاف الدول المتقدمة، بل من حقها أن تكون أكثر تقدما منها إن توفرت الاستطاعة وهو حق طبيعي وكوني. إنها رسالة قطرية تريد أن تدعو الجميع للعمل على بناء عالم يتسع للجميع. رسالة كبيرة في المضمون من بلد صغير في المساحة. لذلك نقول إنه حدث أكثر من كأس العالم وأكبر من بطولة عالمية في كرة القدم.