تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حواره المفتوح مع بعض الشباب من « سفراء الفرنسية» بمناسبة القمة الفرنكفونية الأخيرة المنعقدة خلال اليومين الأخيرين على أرض تونس الشقيقة قاعدة عقبة بن نافع لانطلاق الفتوح الإسلامية، تحدث عن التراجع الذي عرفه وضعُ اللغة الفرنسية بالمنطقة المغاربية، قياسًا على ما كان عليه قبل عشرين أو ثلاثين سنة (ولا أدري هل هي حقيقة أم خدعة!!)، ودعا إلى مواجهة هذا التراجع بالعمل المخطّط المدروس، وب(إعادة الغزو RECONQUÊTE)، هكذا عبَّر بدقة عما يريد قوله، مستعملاً هذه الكلمة القوية ذات الحُمولة الدينية الثاوية في لاوعي الإنسان الفرنسي والأوروبي منذ عهد الحروب الصليبية والاحتلال الاستعماري. وهي نفس الكلمة التي أعاد إحياءها اليميني المتطرِّف إريك زمّور حين سمَّى بها حزبه السياسي RECONQUÊTE وخاض به الرئاسيات الفرنسية الأخيرة. وهو شخصية معروفة على نطاق واسع بعدائها القوي للإسلام والعرب والمسلمين، والمطالبة بتهجير المسلمين من فرنسا وإعادتهم إلى بلدانهم، وغزو من بقي منهم غزوًا ثقافيّا ودينيا ولغويا. وهي نفس الكلمة التي كان قد استعملها الإسبان ضد الوجود الإسلامي بالأندلس فيما عُرف بحروب الاسترداد Reconquista التي بدأت منذ القرن الحادي عشر الميلادي (ق5ه) وانتهت بسقوط غرناطة بعد أربعة قرون. فالغزو في ذهنية الإنسان الأوروبي المسيحي، والفرنسي على الخصوص، يعني الغزو الروحي والحضاري والثقافي واللغوي الذي يمهدّ لكل غزو اقتصادي وسياسي كاسِح. هذا الخطاب الماكروني وما دعا إليه يذكّرنا بمقالة نشرها سنة 1946 السيد جورج سوردون الرئيس السابق لمحكمة الاستئناف بالجزائر واستعمل فيها عبارة الغزو الروحي بشكل سافر وصريح فقال: « إن عمل فرنسا في الشمال الإفريقي كان كبيرًا، لكنها مع ذلك لم تستطع الوصول إلى غزو القلوب والمشاعر، والحق أقول: إن الغزو الروحي ما زال لم يتمّ بعد، وهو الشيء الأهم الذي يستحق الاعتبار في نظرنا»( الودغيري: العربية أداةً للوحدة… ص 189). وماذا يُقصَد بالتخطيط لعملية «إعادة الغزو» الفرنكفوني التي دعا لها الرئيس الفرنسي سوى استعمال الأدوات المعهودة في السياسية الفرنسية تجاه المنطقة القائمة على الضغط ثم الضغط بقوة وباستمرار وبكل الوسائل الممكِنة، ومنها ورقة الصحراء، على الدول والحكومات القائمة من أجل مزيدٍ من التنازلات لفائدة اللغة الفرنسية، ومزيد من « الإصلاحات التعليمية» التي لا يكون الغرض منها في البداية والنهاية سوى مراجعة وضع العربية والتراجع عن كل مكتسباتها السابقة، وتقزيم وجودها ومضاعفة وتيرة التضييق عليها بشكل تصاعديّ، واقتضام ما يمكن اقتضامه مرةً تلو أخرى، من كل الهوامش المتبقّية من مساحة استعمالها وتداولها، وتوفير مناخات جديدة تتنفّس فيها الفرنكفونية على راحتها وتعيش حياتها بالطول والعَرض. هذه الأمور لا يفكِّر فيها كالعادة ساستُنا بالمنطقة، ولا تشغل بالهم ولا أي حيّز في برامجهم، فهي آخر همّهم. تفكيرُهم منصبّ دائمًا على ما يُمزِّق الكيانات ويفرِّق المجتمعات ويخترق الثقافات، ليسودوا ويحكموا ويتحكَّموا كما شاؤوا، لا على ما يجمع ويؤلِّف ويوحِّد ويقوٍّي ويحصِّن الذات والكيان والهوية، ويعيد لحضارتنا الشامخة نَضارتَها وبريقَها، وللنفوس العربية والمسلمة شيئًا من الآمال التي فقدتها بتوالي النكَبات والنَّكسات والإخفاقات. حقبة جديدة من الغزو اللغوي والثقافي والروحي الأسود تنتظر المنطقة، يُحضِّر لها الساسةُ الفرنسيون بدهاء ويتهيّأون لتدشينها، بل لا أظنني أخطئ أو أبالغ إذا قلت إن تدشين هذه المرحلة الجديدة قد بدأ بالفعل، بالنسبة للمغرب على الأقل، بإقرار خطة إصلاح التعليم الأخيرة التي تُوّجت بالقانون الإطار وعوَّضت مبدأ استعمال العربية في تدريس كافة العلوم والمواد بفكرة «التناوب اللغوي»، فأعادت الفرنسية بقوة المُنتصِر المُبهِر لاكتساح الميدان واجتياح مساحات أخرى ظلت خارج سيطرتها (التعليم الأوَّلي على سبيل المثال). وما علينا إلا أن ننتظر، مكتوفي الأيدي معدومي الإرادة مقصوصي الجناح، مزيدًا من التنازل والانبطاح في ظل الظروف التي يعيشها الواقع العربي المتشرذِم وواقع المنطقة المغاربية التي تُدَسُّ في جسمها كل يوم أسافينُ التقسيم والفُرقة والتجزئة على أيدي الإخوة الأعداء، تحت غطاء الشعارات السياسية الزائفة ( تقرير المصير، حقوق الإنسان، مثلا) التي نستوردها للقضاء على ذواتنا ونحن نظن أننا نقضي على الأعداء، ومن هم الأعداء يا ترى سوى أنفسنا وأطراف من أجسامنا ولُحومنا؟ هم يستعملون لغتَهم لإعادة الغزو والاكتساح، ونحن نتفانَى في تحطيم لغتنا الجامِعة للإمعان في تمزيق كياناتنا الممزَّقة أصلاً. هكذا هم يفكّرون، وهكذا نحن نفكّر.