إن ذكرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من أجل الذكريات عند المسلمين عامة وعند العاملين لهذا الدين خاصة؛ فهي ذكرى مُخرجِ البشرية من الظلمات إلى النور، وخاتمِ الأنبياء والمرسلين…إنها فرصة لاستلهام الدروس والعبر من حياة صاحب الذكرى العطرة قصد تجاوز المحن والإخفاقات، والتشوف إلى تحقيق النجاح والانتصارات في جميع الميادين والمجالات. فمن خلال هذه الذكرى نتذكر ضرورة التأسي بنبينا عليه الصلاة والسلام خير قدوة لنا جميعا، مصداقا لقوله تعالى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا". (الأحزاب:21 ). ونظرا لطبيعة الظروف والأحوال التي يعيشها المسلمون في الوقت الحالي فقد اخترت مجموعة من الدروس المناسبة للتذكير بها لعلنا نتعظ ونعتبر، وهي كما يلي: 1. إنها ذكرى نستفيد منها العيش الدائم على الأمل رغم شدة الألم. إن الذي ينبغي استحضاره في كل وقت وحين أن ذكرى ميلاد نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ليست كباقي الذكريات، فهي ذكرى خيرِ البشرية الذي أضاء الكون بمولده بعد أن طبق عليه الظلام، واستفحل الباطل، واستأسد الضلال، وباتت الدنيا لا تعرف للنور طريقا ولا للحق سبيلا، وكان الناس يعيشون في جاهلية تلاشت أمام سطوتها القيم الإنسانية النبيلة. وكم نحن في حاجة اليوم إلى استحضار هذا البعد، ونحن نعيش ذكرى مولد الحبيب عليه الصلاة والسلام، خصوصا في هذا الزمان الذي استأسد فيه أصحاب الباطل، وضعفت فيه حيلة أهل الحق حتى ظن البعض منا أنه من المستحيل الوصول إلى ما كنا نمني به النفس من إقامة دين الله ونشر القيم النبيلة من خير ورحمة وحق وعدل… إن ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصل فيها أن تبعث في أنفسنا التفاؤل والأمل في تحقق وعد الله الذي لا يخلف. قال الله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهن في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا" (النور:55). فما علينا إلا أن ننظر إلى كل ما يحدث بأمل، وأن نعتبر كل ما نمر به هو جزء من التمحيص "ليمحص الله الذين آمنوا"، وتلك سنة الله في حياة الأنبياء والمصلحين، وليكون لنا اليقين الجازم أن الألم سيزول مهما طال أمده، كما أن الليل سينجلي مهما طالت ظلمته وقساوته. فالنظرة الإيجابية هي البلسم الشافي لكل المعاناة والمشاق الناتجة عن المحن الطارئة، ولن تتحقق لنا النظرة الإيجابية إلا بالثقة التامة بنصر الله تعالى "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم" (سورة الروم: 5). 1. إنها ذكرى نتعلم منها أن سنة الابتلاء جارية: إن هذه الذكرى العظيمة تجعلنا نسترجع سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ونتذكر صنوف الابتلاء التي تعرض لها عليه الصلاة والسلام، وكان في كل الأحوال صابرا محتسبا. روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال:الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة 143). وهاهنا أقول: إن الابتلاء في هذه الحياة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف، وصدق الله العظيم القائل: "ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"(العنكبوت:3 ). ولنعلم أن أشد مظاهر الابتلاء التي يمكن أن يصاب بها العاملون لنشر هذا الدين هي: حب الوجاهة والرياسة، والدعة والاطمئنان إلى الوضع الاعتباري الذي قد ينعمون به، ويشتد البلاء أكثر عندما يطول الأمد ولا يستطيع هؤلاء العاملون الصدع بالحق والوقوف إلى جانب المستضعفين مما قد يسفر عن نتائج سلبية غير متوقعة تعود بالأثر السيء على المشروع الذي يسعون إلى التمكين له في الواقع. 1. إن ذكرى ميلاد الحبيب صلى الله عليه وسلم فرصة لتعلم العيش برسالية، مع الأخذ بالأسباب إننا من خلال إحياء هذه الذكرى الغالية نتعلم كيف نعيش جميعا وفي كل المجالات رسالة الإسلام حقا وصدقا كما كان ديدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلك سنحيا الحياة العزيزة المهابة الجانب، وإلا نفعل لا قدر الله سنعاقب من حيث لا نشعر، وتسلط علينا الأهواء والشهوات والشياطين بمكائدها التي رغم ضعفها فقد لا نقوى على مجابهتها، لأن تلك هي سنة الله في المتنكبين عن النهج الذي رسمه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بوحي من رب العالمين، قال الله تعالى: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبه هواه" (الأعراف:176 ). وفضلا عن هذا فقد كان عليه الصلاة والسلام في دعوته يأخذ بالأسباب ويستعمل كل الأساليب المناسبة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ فقد استثمر كل الفرص المتاحة، سواء تعلق الأمر بالمواسم والتجمعات، أو بالمواقف والقرابات. وقد حفز عليه الصلاة والسلام الطاقات واعتبر المآلات، واستعمل في كل ذلك الحكمة، وقدر الأمور حق قدرها وفق مقاييس صحيحة في السر والعلن، وفي المنشط وللمكره. وكان عليه الصلاة والسلام حريصا على المدعوين، رؤوفا رحيما بهم مصداقا لقوله تعالى:" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم"(التوبة :128 ). ومن كمال الأخذ بالأسباب أنه اهتم عليه الصلاة والسلام كثيرا بصناعة الرواحل من الرجال ذوي الأخلاق الفاضلة والمؤهلات الكافية في مجالات الدعوة إلى الله تعالى، أولئك الذين قال الله سبحانه فيهم: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من بنتظر وما بدلوا تبديلا"(الأحزاب:23 ). 1. الثبات على المبدأ، والاستعلاء عن إغراءات أهل الباطل إن هذه الذكرى تجعلنا نتذكر أن صاحبها عليه الصلاة والسلام لما استجاب لأمر ربه " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" (الحجر:94 ) كان ذلك سببا في قض مضاجع قريش، فلم يجدوا لرده من حيلة إلا سلكوها، لكنه عليه الصلاة والسلام كان دائما صلبا ثابتا على المبدأ وهو ينشر دعوته لأن الله تعالى عاصمه مصداقا لقوله سبحانه: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين" (المائدة:67 ). ولثنيه عن ثباته وإصراره لجأوا إلى إغرائه بالأموال والجاه والمنصب والنساء، فلم يفلحوا، وأجمعوا على أن يتنازلوا له فيعبد آلهتهم يوما، وهم يعبدون إلاهه عشرة أيام، فكان الرد الحاسم القاصم من الله تعالى بقوله لنبيه : " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عبد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين"(سورة الكافرون). لقد آمن عليه الصلاة والسلام أن دعوته لا تقبل المساومة ولا التنازل عن شيء منها، فالدين كامل متكامل غير متجزأ، فمن أخذ به فليأخذه كله، ومن حاد عنه فهو ظالم لنفسه ومهلكها. ولهذا مضى النبي عليه الصلاة والسلام في تبليغ دين الله وكله ثبات ويقين أن الله تعالى ناصره ومظهر دينه لا محالة "ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز" (سورة الحج:40 ). خاتمة: تعد ذكرى المولد النبوي الشريف فرصة ثمينة نستحضر من خلالها كل طورٍ من أطوار حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومراحلِ دعوته، وهي بالنسبة للدعاة الصادقين المخلصين الخزان الذي لا ينفد على مر الأزمان من الدروس والعبر لمن تأمل ونظر، والنور الذي يتلألأ بالفوائد والحقائق لكل من اعتبر. وهكذا فحري بنا أيها أن نقتفي أثر نبينا عليه الصلاة والسلام ونتأسى بأخلاقه، ونسيرَ على منهجه في الدعوة، وفي حياتنا كلها…وبذلك سيعود لنا عزنا وسننهض من جديد لاستئناف المسير. "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون" (التوبة:105 ). *أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس جامعة سيدي محمد بن عبد الله المملكة المغربية.