الحمد لله، اقتضت سنة الله في الكون أن يكون أتباع المحتوى النقي الهادف قليلين بالمقارنة مع متابعي التفاهة والفساد، إذ يسهل اتباع أهواء النفوس وإطلاق العنان لشهواتها ولذاتها.. لكن التحدي هو كبح جماحها وقيادتها لما فيه صلاحها وسعادتها الأبدية، وهذا لا يتأتى إلا بالتعلم وبترقية هذه النفوس والرفع من وعيها مما يترتب عليه عمل هادمٌ للذات لا يروق لكثير من الناس. كما توجد هذه المفارقة في الخطاب الدعوي نفسِه، ويتضح ذلك بكثرة متابعي الوعظ -على ما فيه من الخير- مقارنة بمتابعي المحتوى العلمي والتأصيلي والتقعيدي لما فيه من مجاهدة ومكافحة حتى يُنال الفهم ويُرزق بالإدراك! وأحب أن أذكّر هنا بأصل دعوي مهم لمن همه الإصلاح وخوض غمار مزاحمة التافهين: أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ، قالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ: أيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا، فَقالَ: أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ؟ فقِيلَ: هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قالَ: فأرْسَلُوا إلَيْهِ. فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنيه ودَعَا له، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقالَ عَلِيٌّ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ. محل الشاهد من حديث نبينا الهادي صلوات ربنا وسلامه عليه: – "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من أن يكون لك حمر النعم"، وحمر النعم أجود الإبل وأنفسها عند العرب. – لذلك فإن درسا يحضره شخص واحد أو مقطع يشاهده عشرة أشخاص، قد يكون وقعهما أكبر ونفعهما أوسع من كثير من المقاطع ذوات آلاف المشاهدين. وهنا يحسُن أن أذكر ما أخبرني به الشيخ سليمان الدويش عن الشيخ ابن جبرين رحمهما الله تعالى: أن الشيخ ابن جبرين ألقى درسا حضره شخص واحد ولم يتخلف بحجة قلة الحاضرين.. وذلك لأن الشيخ يتاجر مع الله سبحانه وتعالى ولا يعلم أي عمل سيدخله الله به الجنة. – إن الداعية الموفق ليتعامل مع الله سبحانه وتعالى أينما حل وارتحل، فليكن هم الدعاة تبليغ دعوة الرسل والأنبياء وتكثير سواد الأتقياء وتوريث العلم للأنقياء. والله الموفق، وهو الهادي سبحانه.