خلال نهاية هذا الأسبوع كنت أتجول في باب الحد فعثرت على نسخة قديمة لكتاب التكملة والذيل والصلة، من مطبوعات دار الكتب سنة 1970م وللصدفة هي سنة ميلادي، وهذا الكتاب كما ذكر مراجعه الأستاذ عبد الحميد حسن عضو مجمع اللغة بمصر قال عنه في المقدمة، هذا الكتاب جمع فيه الصاغاني ما فات الجوهري في كتابه صحاح اللغة وتاج العربية وذيّل عليه وهو الإمام الحسن بن محمد بن الحسن الصاغاني. والذي قال في مقدمته قال الملتجئ الى حرم الله تعالى… هذا آخر ما أملاه الحفظ وأمَّله الخاطر من اللغات التي وصلت إليَّ، وغرائب الألفاظ التي انثالت، عليّ وهذا بعد أن علمتني كبرة، وأحطت بما جمع من كتب اللغة خُبْراً وخِبْرة، ولم آلُ جهدا في التقرير والتحرير وإيراد ماهو به حقيقه وإخراج ما لا تدعو الضرورة إلى ذكره حذرت من إضجار متأمٍّليه، وتخفيفا على قارئيه…. وقد دعاني الشغف العلمي والفكري للبحث عن هذا الإمام فعرفت أنه الإمام العلامة الفقيه المحدث اللغوي الكبير صاحب العباب الزاخر في اللغة المزداد سنة 577 هجرية بلاهور إقليم البنجاب بالهند، وقد اكتشفت باندهاش كبير أن الصاغاني هو صاحب أقدم نسخة من صحيح البخاري والذي ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري أن نسخته مكتوبة بخط يده وذكر أنه قابلها على نسخة بخط الفربري نسبة إلى فربر وهي قرية من قرى بخارى والفربري هو ابو عبد الله محمد بن يوسف المزداد سنة 231هجرية وقد قال أنه سمع الصحيح مرتين المرة الأولى سنة 248 هجرية والمرة الثانية قبل موت البخاري بأربع سنوات اي سنة 256 هجرية ووجه اندهاشي وفرحي هو ان الفربري عاصر الإمام البخاري ابو عبد الله محمد بن إسماعيل المزداد سنة 194 هجرية والمتوفى سنة 256 هجرية بل ان الفربري هو تلميذ من تلاميذ البخاري الذين سمعوا منه مشافهة،وكتب نسخته وعرضها على الإمام البخاري فأقرّه عليها، وطريقة انتقال العلم آنذاك كانت عن طريق السماع والاسناد ففي ذلك الوقت لم تكن هناك مطابع، أو مطبوعات أو مصانع لصناعة الأوراق والتي كانت عزيزة ونادرة والطريقة الأساسية لانتقال العلم كانت هي السماع والثلمذة فلو وجدوا كتابا أو رقعة فإنهم لا يعتمدونها في النسبة إلى صاحبها إلا إذا سمعها بالتسلسل، فلم يكن يوثق بالكتب إلا باللقيا والسماع شيخا عن شيخ .ومن الفربري سمع رواة البخاري ومنهم المروزي وبن السكن والكشمهني والسرخسي والمستملي. ونسخة عالمنا اللغوي الكبير الصاغاني تلقاها بالاسناد عن أصحاب أبي الوقت السجزي عنه عن الداودي عن الحمويي، نسبة إلى حماه عن الفربري تلميذ البخاري وبذلك تبتث النسبة إلى البخاري على خلاف ما حاول المستشرقون إثارته من شكوك في وجود صحيح البخاري ومنهم المستشرق ألفونسو منجانا، والذي كان له اهتمام بالمخطوطات وقد قال أنه جمع الف مخطوطة حينما كان يدرس بالعراق واخذها معه انجلترا ووضعها بجامعة برمنغهام، والذي كان ينكر وجود كتاب حقيقي اسمه صحيح البخاري وأشاع هذه الفكرة لدى عامة الكتاب العرب من أشباه الباحثين النقلة، من أمثال رشيد ايلال المغربي صاحب كتاب "صحيح البخاري نهاية أسطورة" وهو كتاب في مجمله، بدون هوامش أو مصادر علمية ومنقول أغلب أفكاره من كتاب أضواء على السنة المصري محمود أبو رية. وقد ظلت نسخة الصاغاني المقابلة على نسخة الفربري مفقودة، والنسخة المعتمدة في العالم الاسلامي هي نسخة شرف الدين اليونيني المزداد سنة 621 هجرية المتوفى 701ه، وهو عالم ومحدّث. نسخ صحيح البخاري وحرَّره وقابله في سنة واحدة وأسمعه 11 مرة حسبما جاء عنه في الموسوعة العربية العالمية. وتعتبر نسخة اليونيني من صحيح البخاري أعظم أصل يوثق به، وُيطمأن إليه؛ لأنه عقد مجالس بلغت 71 مجلس في دمشق لإسماع صحيح البخاري بحضرة النحوي الكبير ابن مالك صاحب الألفيَّة وجماعة من الأفاضل غيره، فجمع منه أصولاً معتمدة، وقد كان ابن مالك يسمع منه ومع ذلك يستفيد منه اليونيني في ضبط ألفاظ الكتاب وتصحيحه من النواحي اللغوية . أما نسخة الصاغاني فقد ظلت مفقودة مختفية وهي الموجودة صورة منها أسفله، إلى أن عثر عليها محدث الهند الكبير تقي الدين الندوي المزداد سنة 1352 / 1934م بقرية مظفربور، في ولاية أتر برديش في الهند. والذي تلقى تعليمه في مدرسة الإصلاح أعظم جراه، وجامعة مظاهر علوم سهارنفور، ودارالعلوم لندوة العلماء لكناؤ، الهند، ونال شهادة الدكتوراه في الحديث الشريف وعلومه من جامعة الأزهر بالقاهرة. ويعدّ من أنجب طلاّب مدرسة الهند الحديثية، فقد طلب العلوم الإسلامية وعلم الحديث بصفةٍ خاصّةٍ على أساتذة الفن وجهابذة العلم من أمثال شيخ الحديث العلامة محمد زكريا الكاندهلوي وقد قرأ في فهرس المكتبة هناك وجود نسخة الصاغاني ، فظهرت إلى الوجود المخطوطة المفقودة، والتي ذكر بن حجر العسقلاني أنها تزيد حديثا واحدا عن باقي النسخ ،قال محدث مصر معبد عبد الكريم انه تابث النسبة البخاري ، وقد طلب هذا الأخير من تقي الدين الندوي تمكينه، من نسخة الصاغاني الموجود بمركز الندوي بالهند فطلب منه أن يأتي هو إليها للهند. وهكذا تسقط ترهات التشكيك في السنة النبوية، ولم يكن يفرق بين تدوينها والرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة أجيال وقد بدا التدوين في النصف الأول من المائة الثانية حوالي 140 هجرية، مع الإمام الزهري وابن أبي ذئب والإمام مالك وابن اسحاق، فليس البخاري وحده من نقل هذا الميراث النبوي فهو إنما جمع ما كان متداولة موجودا بطرق أخرى من شيوخه وشيوخ غيره، وحتى لو لم يكن موجودا. فوجدت السنة التقريرية والعملية من أفعال الرسول التي انتقلت بالتقليد من جيل إلى جيل تشاهدها الآلاف من الصحابة والتابعين وتابع التابعين، ومن جاء بعدهم، ولذلك اعتبر علم الحديث من أعظم علوم الإسلام من حيث أدلة وحجج التوثيق ومناهج النقد من علم الجرح والتعديل ومعرفة الرجال والتواريخ، عن طريق تأسيس علم الإسناد اعترف برصانته وعلميته، كبار المستشرقين المنصفين. فرحم الله عالمنا اللغوي الموسوعي الفقيه المحدث الإمام الصاغاني اللاهوري الهندي، والعجب العجاب أن كل من برعوا في اللغة والحديث كانوا في الاصل عجما وليسوا عربا. وهذا من معجزات الإسلام.