مما يُحكى في أدب المثل أن ملكاً أراد حوضا مملوءاً بالحليب، وأعلن أنه سيدفع لكل من يجلبه ويفرغه في الحوض، فقال أحد اللبّانين: لو أني أفرغ سطلاً من الماء في الحوض فإن هذا الماء لن يؤثر في الحليب الكثير، فأفرغ في الليل سطل الماء، وفكر غيره بالأسلوب نفسه، حتى سرت الفكرة بين الجميع، فلما جاء الملك في الصباح وجد حوضاً من ماء. ذلك هو حال المرء حين يتجاهل حقيقة علاقته بالمجتمع، ويسقط من حساباته حقيقة التأثير المتبادل بينه وبين الوسط المحيط، فتراه دائما يردد ذلك السؤال الساذج: إذا فسدتُ أنا فماذا يضر الأمة؟ أو يتناوله بصيغة أخرى فيقول: ما أنا إلا فرد فكيف تؤثر جهودي في حل أزمات الأمة؟ أصحاب هذه النظرة عندما يفكرون في أحوال الأمة وأزماتها، لا ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم جزءاً من هذه الأمة، أو على نحو أكثر دقة: لا ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم جزءاً من الأزمات والمشكلات. هؤلاء التعساء يحسنون لعن الظلام، وإعطاء وصف تفصيلي لسوء الأحوال، لا يكترثون للقمامة التي تخرج من بيوتهم، بينما يتأففون لمرأى الذباب الذي يقع عليها. جلّ اهتمامهم ينصب على انتظار حكومات صالحة تغير أحوال الناس، مع أن الحكومات الفاسدة إنما هي نتاج لاجتماع أفراد فاسدين، وجدوا في اجتماعهم هذا مناخاً مناسباً ينشطون فيه، هم من التربة نفسها، فمتى ندرك أننا جزء من هذا الخراب الكبير؟ لقد غدا الإعراض عن الأفراد داء عاماً من آفات المدنية التي اعتمدت بشكل كلي على المؤسسات والهيئات، وأهملت العناية بالأفراد، فهؤلاء شبههم أحد رجال الحكمة بمن يجمع أخشاباً نخرة متآكلة ليعملوا منها سفينة تحمل جماعة كبيرة وبضائع ثمينة. هذا المنطق العام اصطبغ به الفرد في أمتنا، فانفصل بسلوكه عنها، واستهان بحسنته وسيئته، ورأى أن كلتاهما لن تؤثر في الأمة بحال، فيقع بذلك في حفرة الاحتقار الذاتي، ذلك الاعتقاد هو المؤثر الأول والأقوى في السلوك الإنساني، الذي يقول عنه العالم الألماني جوته: «أشد الأضرار التي يمكن أن تصيب الإنسان هو ظنه السيئ بنفسه». وانطلاقا من حقيقة تأثير الفرد في المجموع، كانت قاعدة الإصلاح في عهد النبوة، هي الاهتمام بالأفراد وتقويمهم قبل أن توجد حكومة ودولة تكون مظلة لهم. إن الفرد الفاسد لا يعيش في كبسولة تعزله عن واقعه، وتمنع تمدد فساده، فهو مفسد لبيته، ومفسد لأصدقائه، ومفسد للنشء إن كان لهم مربيا، ومفسد لموظفيه إن كان عنهم مسؤولا، مفسدٌ بالعدوى التي تنتشر وفق قوانين الاجتماع البشري، بل هو مفسد بإقراره الفساد وترويجه، لذا لا صلاح لهذه الأمة إلا إذا اعترفنا كأفراد بتقصيرنا ومسؤوليتنا عن الفساد العام في شتى المناحي. وإذا اعترفنا كأفراد أننا جزء من المشكلة، فإن ذلك في حد ذاته ليس كافياً في التغيير، فلابد من أن نكون أيضا جزءا من الحل، لا أن ننتظر نشأة أنظمة رشيدة تبرز من العدم، فحكومات الجباية لن تتحول إلى حكومات هداية بعصا سحرية، إنما هي النواميس، وعلى قدر الرعية يكون الراعي. سنكون جزءاً من الحل عندما نؤمن بأهمية الجهد الفردي وتأثيره في الحياة العامة، وكم من فكرة جادت بها قريحة فرد غيرت مجرى الأحداث. قال الإمام القرطبي في تفسيره: «قد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفِيَلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألِفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل». وعلى مرّ التاريخ كان للجهد الفردي تأثير في مجراه، فالمدينةالمنورة قد وطّأها رجل واحد حمل الفكرة الإسلامية وطاف بها في الأرجاء، حتى لم يبق فيها بيت إلا ودخل في الإسلام، أو تعرف عليه أو بلغته رسالته، هو الصحابي مصعب بن عمير، فكانت النتيجة أن المدينة خرجت لاستقبال صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم الذي هاجر إليها، استقبال المشتاق المتلهف. وإذا كانت حضارة الأندلس إحدى الصفحات المضيئة للحضارة الإسلامية العامة، فإن من وراء تأسيسها فردا خرج من بلاده مطاردا ملاحقا، هو عبد الرحمن بن معاوية الملقب بصقر قريش. مارتن لوثر كان فرداً عندما أحدث تحولا في الحياة الدينية في الغرب، فبعد أن عين راعيا لكنيسة «فيتنبرغ» بألمانيا. زار روما سنة (1510م) فساءه الانحلال الروحي المتفشي في الأوساط الكنسية العليا. فبدأ بمشروعه الإصلاحي، واحتجاجا على مفاسد رجال الكنيسة علّق على أبواب كنيسة القلعة خمساً وتسعين قضية أثارت غضب السلطات الكنسية. فطلبوا منه سحب احتجاجاته فرفض، فأصدر البابا قرارا بحرمانه من غفران الكنيسة، فلما تلقاه لوثر أحرقه علانية، ولم يزل في صموده حتى أصبح مذهبه البروتستانتي سائدا إلى اليوم. وإذا كانت باكستان من الدول الإسلامية القليلة التي تمتلك النووي، فإن هذه القوة الرادعة التي أحدثت التوازن في المنطقة ووازت بها باكستان جارتها الهندية المشاكسة، كانت نتاج جهد فردي لشخص واحد اسمه عبد القدير خان، المسمى بأبي النووي الباكستاني. فبعد أن سبقت الهندباكستان بخطوات واسعة في هذا المجال، تلقت القيادة الباكستانية رسالة سرية من خان، وكان آنذاك يعمل خبيرا للمعادن في هولندا، يعرض انضمامه لهيئة الطاقة النووية، لكنّ المسؤولين قللوا من شأنه، فاتصل برئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو شخصياً، الذي أمر بإرسال وفد سري إلى عبد القدير خان في هولندا، فرفع الوفد تقريرا بتوصية عاجلة بالاستفادة من قدراته. ما إن تقلّد الشاب وظيفته حتى عمل على تطوير أسلوب العمل بالهيئة، وأنشأ معامل هندسية للبحوث أصبحت بؤرة لتطوير تخصيب اليورانيوم اللازم للمشروع النووي الباكستاني، ومع استمراره في بذل الجهد، استخدم طريقة مبتكرة في تطوير المفاعلات النووية اختصرت على باكستان عشرات السنين. وفي 11 مايو 1998، نفذت الهند تجربة نووية أطلقت عليها «شاكتي» لكنها فوجئت بعدها بأيام معدودة، بقيام باكستان بتنفيذ أول تجربة انفجار لقنبلة نووية انشطارية، ثم بتجربة ثانية بعدها بأيام، أطلق عليهما «تشاغاي 1» و»تشاغاي 2» وخرج الشعب الباكستاني عن بكرة أبيه يحتفل بذلك الإنجاز، ورفع صاحبه على الأعناق. إنما تُبنى الأمم بجهد الأفراد، فقط إذا ما استشعروا المسؤولية، ووظفوا طاقاتهم وإمكاناتهم منطلقين بدافع ذاتي صنعته منظومة القيم التي يعيشون بها، فهم كما قال ستيفن كوفي: «لا يلقون باللوم على الملابسات أو الظروف أو التكيف لتبرير سلوكهم، إن سلوكهم هو نتاج خيارهم الواعي، المرتكز على القيم». إنها دعوة لكل فرد، لأن يترك التعويل على الحكومات في التغيير، ويعمل على بناء نفسه ويستشعر المسؤولية تجاه مجتمعه وأمته، مبتعدا عن آثار القنوط واليأس التي رانت على الأمة، حتى يكون جزءاً من حل مشكلاتها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.