هوية بريس – الخميس 05 نونبر 2015 مما يُحكى في نوادر الأساطير، ويُقصد بروايتِه تدبرُ ما فيه من الحكمة: أن شيخا فانيا شعر بقرب أجله، فاستدعى ابنه الوحيد وأوصاه وصية بليغة، كان منها قوله: "يا بني.. إنك تعلم أن حياتنا في هذه القرية مهددة بسيل جارف قد يجتثها في أية لحظة، وإن في أعلى هذا الجبل الشامخ أمامنا مغارة هائلة فيها النجاة والراحة، وألوان مما يلذ ويطيب. فإذا أنا متّ، فلتأخذ هذا الكيس المحمل بالجواهر الكريمة، فإنها مفتاح الدخول للمغارة، واصعد به إلى أعلى الجبل، لتحقق غايتك في هذه الحياة". مات الرجل واعتنى الولد بتحقيق الوصية.. حاول الصعود بكيسه الثقيل مرارا، فلم يفلح.. نظر حوله فوجد الناس متسارعين إلى الصعود بأكياس يملؤونها بقطع زجاجية تشبه الجواهر في منظرها، لكنها خفيفة لا تكلف حاملها شيئا! تأمل قليلا.. ثم قال: "لم يكن والدي يقصد أن أصعد بالجواهر حقا، وإنما كان مقصده أن أتحرك .. مقصده أن أعمل .. مقصده أن أصعد..". حمل الولد القطع الزجاجية الخفيفة.. صعد الولد ووصل.. ولكن الجواهر بقيت في سفح الجبل! عن أي شيء أتحدث؟ كنت أسمع قديما عن رجال همهم إقامة الدين في الأمة وتحكيم الشريعة الإسلامية ومواجهة العلمانية. ومرت العقود.. فصرت أرى بعض هؤلاء يحدثوننا عن الديمقراطية والحداثة والدولة المدنية والسياسة اللادينية، وأبحث في كلامهم عن أثر المرجعية الإسلامية.. عن أحكام الحلال والحرام.. عن تعبيد الناس لربهم.. عن الخضوع لحكم الله.. أبحث وأطيل البحث.. فيرجع طرفي حسيرا، ويؤلمني أنني لا أجد من بغيتي شيئا.. وأتذكر أن هؤلاء -وأحمد الله أنهم قلّة، ولكنهم للأسف متصدّرون- تركوا كيس الجواهر خلفهم، واعتاضوا عنها بقطع الزجاج الزاهية البرّاقة، التي يخطف سناها الأبصار! نعم.. عن الدولة المدنية أتحدث! وهي من قطع الزجاج اللامعة التي يلتبس زيفها على غير الخبير، فيحسبها جوهرة غالية! الدولة المدنية لا يراد بها ما يقابل العسكرية، ولا ما يقابل البدوية غير المتحضرة. وإنما يقصد بها ما يقابل: الدولة الدينية. معركة الألفاظ وسؤال المرجعية الدولة الدينية مصطلح غربي ولد وترعرع في أجواء الصراع في أوروبا بين الروحي والزمني، أو بين الكنيسة والفلسفات اللادينية «المتنورة». فيراد بها تارة أن للحاكم طبيعة إلهية، وتارة أخرى أن الحاكم يستمد سلطانه بشكل مباشر أو غير مباشر من الله، وليس لمخلوق أن يحاسبه أو يسائله. وهاتان الصورتان من الدولة الدينية «الثيوقراطية» مخالفتان للمفهوم السياسي الإسلامي. فإن أريد بالدولة المدنية ما يقابل هذا المعنى لم يكن بذلك بأس شرعا. ولكن.. هل الدولة المدنية هي هذا المذكور هنا فقط، أم هي شيء آخر عظيم وخطير، معلن بوضوح لديهم، مسكوت عنه لدى بعضنا؟ الدولة المدنية -كما يقررها الفلاسفة المؤسسون للمفهوم في أوروبا1، وكما يفهمها المنتسبون للفكر العلماني المهيمن- هي الدولة التي تفصل بين الديني والدنيوي، فتحصر الأول في الشعائر الفردية الخاصة، وتجعل الثاني خاضعا للاجتهاد الإنساني المفتوح، والذي لا يخضع لأية مرجعية دينية متجاوِزة. وبعبارة أخرى، فالدولة المدنية هي التي يكون السلطان فيها للحاكم الزمني، وليس فيها لله سلطان. وإذا تعارض حكم الله الثابت في الوحي، مع حكم البشر المستقى من السلطة التشريعية الزمنية، فإن الدولة المدنية تقدم حكم البشر، وتفرض على حكم الله أن ينزوي في طروس التراث، أو أن يغيّر جلدته بسطوة التأويل والتحريف ليلائم الحكم الوضعي المهيمن! معنى قبيح جدا.. أليس كذلك؟ بلى، وهو الفيصل بين الإسلام والعلمانية.. ولذلك نبه كثير من فقهاء العصر على خطورة هذه القضية. وأكتفي بنقلين اثنين عن الشيخ القرضاوي -وفقه الله- حين يقول: «ثم إن هناك أمورا لا تدخل مجال التصويت، ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها، لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته، ولم يعد مسلما. فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع، وأساسيات الدين، وما علم منه بالضرورة..»2. ويقول أيضا: «هذا الحاكم في الإسلام مقيد غير مطلق، هناك شريعة تحكمه، وقيم توجهه، وأحكام تقيده، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره من المكلَّفين: رب الناس، مَلِك الناس، إله الناس. ولا يستطيع هو ولا غيره من الناس أن يلغوا هذه الأحكام، ولا أن يُجمِّدوها. ولا أن يأخذوا منها ويدعوا بأهوائهم»3. فأين الإشكال إذن؟ الإشكال أن بعض الإسلاميين حين يحرصون على إرضاء الثقافة العلمانية المهيمنة، يكتفون بالألفاظ المجملة، من قبيل: «الدولة في الإسلام دولة مدنية»، دون التنصيص على ما يرفع الإجمال، ويوضح الخطوط الحمراء التي لا يحلّ لمسلم أن يتجاوزها في هذا الباب، إن كان حريصا على سلامة عقيدته! فالقضية ليست ترفا اصطلاحيا، وإنما هي قضية بيانٍ واجب، ينقضُه تلبيس وتدليس مرفوضان شرعا! فلنوضح للجميع معتقدنا، ولنقل: إذا اجتمع نواب الشعب وقرروا السماح ببيع الخمر مثلا، فإننا نعتقد مع ذلك أن الخمر حرام، وأن السماح ببيعه خطأ وضلال. ولا يمكن أن نقبل بقانون وضعي يخالف الشرع الإلهي. يمكنك أن تسمي هذا دولة دينية، أو دولة مدنية بمرجعية إسلامية، أو دولة مدنية فحسب.. لا يهمني اللفظ كثيرا، ولكن يهمني المعنى. والمعنى للأسف ضائع بين الألفاظ الموهمة المحتملة4. وأذهانُ الناس كليلة معرّضة للقصف الإعلامي الذي لا يبقي ولا يذر، فهي لذلك لا تحتمل مزيدا من الخلط والالتباس. وهذا يقتضي أن ننقل الخطاب من مداهنة السياسي إلى بيانِ العالِم. والعلماء إذن مدعوّون اليوم إلى هذا البيان الواضح. فهل يفعلون؟ «السياسة من أمر الدنيا» هذا مثال آخر على ما يقع بسبب الإجمال في الألفاظ من أغلاط في المعاني، وانحرافات في المفاهيم. هل السياسة من أمور الدنيا حقا؟ أما أنا فلا أجيب في هذا السؤال بسلب ولا إيجاب! وذلك أنني أحتاج أولا إلى تقرير معنيين اثنين: معنى "السياسة" ومعنى "أمور الدنيا". أما لفظ السياسة فيطلق في التراث الإسلامي ويراد به مطلق التدبير الدنيوي للرعية، والذي يهدف إلى تحصيل الأمن واستتباب سلطة الحاكم، ولو بالعسف ومخالفة حكم الشرع. ويكون اللفظ حينئذ محمّلا بمعنى الذم، كما في قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة وهيبة وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضا"5. وكقول أحد الوزراء لأخيه حين قام إجلالا للإمام محمد بن نصر المروزي: "أنت والي خراسان تقوم لرجل من الرعية؟ هذا ذهاب السياسة"6. ونحو ذلك كثير. ويطلق لفظ السياسة أيضا على القيام على شأن الرعية من طرف ولاتهم بما يُصلحهم شرعا، مع ما يحتاج إليه ذلك من تنظيمات إدارية تحقق المصالح للرعية وتدفع عنهم المفاسد. وهي بهذا المعنى محل مدح، وتسمى "سياسة شرعية"، يعتني بوضع أصولها وتحرير مسائلها فقهاءُ الشريعة. فالسياسة بالمعنى الأول دنيوية خالصة. وأما بالمعنى الثاني -وهي المقصودة بالبحث والنقاش- فهل هي من "أمور الدنيا"؟ من الصحيح أننا يمكن أن نصنف السياسة ضمن العاديات المقابلة للتعبدات7. لكن: هل دخولها في مجال العادات والمعاملات يقتضي أنه ليس لله فيها حكم؟ مَن قال من علماء الأمة -من المصنفين في الأصول والمقاصد ومن المنشغلين بالفروع- أن الشيء إذا خرج من صنف العبادات، صار من "أمور الدنيا" بالمفهوم العلماني المفرق بين الدين والدنيا، فخرج إذن من سلطة الدين، ولم يعد لفقهاء الشريعة فيه نظر؟! الجواب: لم يقل بذلك أحد! وحين نقول -تبعا لجماعة من الأصوليين- أن استصحاب أصل الإباحة كثيرٌ إعمالُه في مجال العاديات، فإنما نعني صورةَ انتفاء الأدلة الأصولية الأخرى. ومن المعلوم أن الاستصحاب أضعفُ الأدلة، لأنه إنما يصار إليه عند عدم غيره. وعلى هذا، فإذا وجد الدليل الصحيح الصريح على حكم شرعي في ميدان السياسة -وهذا كثير-، وجب المصير إليه، وترك التعلق باستصحاب الأصل. وضوحه لدينا، مما ينبغي أن يُجهر به أمام العلمانيين الذين لا يفهمون من قول القائل "السياسة من أمور الدنيا" إلا المعنى العلماني المتضمن في العبارة المنسوبة إلى عيسى عليه السلام: "دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"! أما نحن، فإذا التزمنا كون السياسة من أمور الدنيا، فلسنا نعني بها أنها خارجة عن تأطير الدين، بل غاية الأمر أنها خارجة عن معنى العبادة، بمعناها الاصطلاحي الخاص8. مرة أخرى: يقع التلبيس في الألفاظ بآلية عجيبة، نحتاج إلى تفكيكها لتيسير تحليلها! يبدأ الأمر باستعارة المصطلح العلماني المفروض في الثقافة المهيمنة، ثم يُبحث له -بوساطة دلالة لغوية أو تأويلية- عن معنى شرعي مقبول، ثم يلبس المصطلح العلماني -في مقام التأصيل- هذا المعنى الشرعي، ثم يُعرض المصطلح بعد أن اكتسب القبول التأصيلي -في مقام الخطاب العام- عاريا من لباسه (معناه) الشرعي، ويقع بسبب ذلك تكريس المعنى العلماني والتطبيع معه! وتطبيق ذلك في مسألتنا: "السياسة من أمور الدنيا"، تعبير ذو حمولة علمانية مرفوضة. التأصيل الشرعي: أقصد بأمور الدنيا أنه ليس من العبادات بل من العاديات، التي يغلب فيها النظر المصلحي الدنيوي. فالتعبير صحيح شرعا بهذا المعنى. الخطاب السياسي المعروض أمام الجميع: "السياسة من أمور الدنيا" تعبير مقبول شرعا، دون قيد ولا شرط. ويُسدل الستار.. ونمر إلى قضية أخرى، وإلى مزيد من التهاوي أمام معاول العلمانية المتسلطة! نعم نحتاج مرة أخرى أن نوضح في مواطن الإجمال، فنقول: يوجد نظام سياسي إسلامي! (ونرجو أننا بهذا القول الموافق لتأصيل جمهرة الفقهاء نفهم أشياء كثيرة، ولسنا ممن لا يفهم شيئا!). وليس المقصود بذلك الآليات الإجرائية، التي نقر أن كثيرا منها يخضع للمصلحة المرسلة. ولكن المقصود أنه النظام السياسي الذي يجعل الإسلام مرجعية مهيمنة، تؤطر وترشد، وتَحكُم ولا يُحكَم عليها. ولأجل ذلك ساغ لنا أن ننسبه إلى الإسلام، فنقول هو نظام سياسي إسلامي. والعبرة بالمعاني والمسميات، لا بالألفاظ والأسماء. وهذا النظام السياسي بهذا المعنى: شيء لا تقبله الأنظمة العلمانية الغربية، وهو شيء لا يقبلُ الإسلامُ غيرَه! فلنختر لأنفسنا.. المقاصد «العلمانية» افتضح وجه العلمانية الكالح المربد، وصارت مرفوضة ممجوجة في نفوس الناس منذ عقود. ولذلك صار ستر وجهها ببرقع رقيق يخفي ملامحه، أمر حياة أو موت لهذه العقيدة داخل أمة الإسلام. وأفضل ما تتستر به العلمانية اليوم: المقاصدُ المعلمنة! واحفظ الوصف جيدا، فإن من المقاصد ما هو شرعي مشروع، يتنافس فحول العلم في إثباته وتقريره. ولكن حمّلت موافقات الشاطبي -رحمه الله- ما لا تحتمل من أمراض العلمانية المهيمنة اليوم. وقد سبق أن نقلنا عن بعضهم قولهم: إن السياسة من أمور الدنيا، وإذن فالدليل فيها إما من الاستصحاب -وقد سبق بيان ما فيه-، وإما من فقه المقاصد- وهذا أوان الكلام فيه! يقولون: المقاصد التي ذكرها الأقدمون اجتهادية غير حاصرة. فما الذي يمنع اليوم أن نضيف مقاصد أخرى، كالمساواة والحرية والعدل والتنمية؟ وجوابنا: لا مانع من ذلك! الأمر اجتهادي غير توقيفي. ولكن بشرطين اثنين: أولهما: تصحيح الاستدلال على أنها مقاصد معتبرة شرعا، وذلك عن طريق الاستقراء التفصيلي لفروع الشريعة. والثاني: حصر مجالها الدلالي في المعنى الشرعي، وعدم التوسع لتشمل المعاني العلمانية المتسترة. الذي يقع اليوم أن بعض الناس يأتون بأصل علماني معتبر، ثم يجدون له دليلا جزئيا أو بعض الأدلة من الشريعة، ثم يجعلونه مقصدا كليا يحاكمون إليه النصوص الجزئية! فهذا قلب تام لطريقة البناء الاستدلالي! فلا استقراء للفروع، ولا تخلص من الحمولة العلمانية الكامنة في الأصل الذي يراد جعله مقصدا شرعيا! وأغلب هذه المقاصد التي يراد اليوم التسويق لها، كالحرية والمساواة مثلا، لم تنبع ابتداء من صميم البرهان الشرعي، وإنما فرضها الغرب المهيمن من ضمن المفاهيم «العالمية» التي فرضها على أمم الأرض، ثم أريد للشريعة أن تتلاءم معها! وهذه المفاهيم/المقاصد مشبعة بحمولة علمانية، يعسر التخلص منها مع صدق الإرادة والحرص على البيان، فكيف مع الإيهام والإبهام، وألاعيب الكلام؟! ومن العجائب أن المتكلمين اليوم في حِمى المقاصد المستباح، يختلفون كثيرا في هذه الأصول، فيضع كل واحد منها ما يلائم نظرته لما ينبغي أن يكون عليه الحال، مع قلة عناية بالبحث عن مقصود الشارع الحكيم. فتجدهم عند ذكر المقاصد التي ينبغي مراعاتها في الميدان السياسي، يذكرون العدل والحرية والمساواة وحسن معاملة الأقليات، إلخ. وهي ألفاظ مستجلبة من معاجم السياسة الغربية العصرية، أريد لها أن تصبح مقاصد شرعية دون تكلف تخليصها من حمولتها العلمانية. والطريف أنك لا تكاد تسمع مقصد: الحاكمية لله، أو السيادة للشريعة مثلا، مع كثرة ما يدل على هذا الأصل في نصوص الوحيين، وكلام أئمة الإسلام! لكنها قطع الزجاج المتلألئة، التي يحجب لمعانُها بريقَ الجواهر الأصيلة! وللكلام في التمييز بين البريقين، بقيّة تأتي إن شاء الله، عند تجدد الحاجة إلى ذلك. والله الهادي إلى سواء السبيل. 1- يراجع كتاب «الدولة المدنية مفاهيم وأحكام» لأحمد سالم، من (ص:37)، إلى (ص:47). 2- من فقه الدولة في الإسلام: (ص:142). 3- الدين والسياسة، تأصيل ورد شبهات: (ص:159). 4- وقد تكون صريحة في المعنى الباطل، لا إيهام فيها، كقول أحد قادة الحركة الإسلامية عن الدولة المدنية التي يدعو إليها، أنها «محايدة وتتكيف مع إرادة الشعب، سواء كانت الإرادة دينية أو لا دينية»، والعهدة على الإعلاميّ الناقل! 5- الفتاوى الكبرى: (6/43). 6- سير أعلام النبلاء: (17/36). 7- مع أننا ننازع في بعض هذا التصنيف، لأن من مهمة الحاكم في الإسلام إقامة العبادات أيضا، لكننا نسلّم بهذا التصنيف تجاوزا لأن الغالب على الحاكم هو الاشتغال بحفظ مصالح النفس والعقل والنسل والمال، مما يدخل في إطار العاديات. 8- أي: بمعنى الأنساك والشعائر التعبدية الخاصة. وللعبادة معنى عام يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.