هوية بريس- إبراهيم الطالب قد لا يتفق كثير من العلماء في باقي الدول الإسلامية مع فتاوى هيئة كبار العلماء وهيئة الإفتاء السعوديتين، لاختلاف المذاهب بين الدول، لكن المؤكد هو أن كثيرا من المسلمين في أرجاء المعمورة كانوا يستمدون أحكام الشرع منهما، نظرا للسمعة الطيبة والمصداقية التي تحلت بها الهيئتان قبل أن يتم تسييسه ما بعد الربيع العربي. ويبدو أن زمن مصداقية الهيئات قد مضى وانقضى، حيث جرت تحت أرجل العلماء مياه كثيرة مسمومة، واخترقت السياسة هيئاتهم بتعيينات مشبوهة، جعلت من المؤسسات الدينية ذيلا لمن يدبر الشأن العام في البلاد، وبهذا تكون المؤسسات الدينية قد دخلت مرحلة التسييس الشامل وسقطت في حفرة الاستخدام والتوظيف. سيبكي المسلمون -لا قدر الله- دما على الزمن الذي كانت فيه هيئة كبار العلماء وهيئة الإفتاء "وهّابيتين" عندما يرون المآلات الفظيعة للقرارات المتتالية التي تتخذها السعودية، وسيترحمون عليهما مفتخرين بماضيهما السلفي "الوهابي". فما ينتظرهما في قابل الأيام لا يمكن التنبؤ بمدى فظاعته، فهما تعيشان أحلك الظروف، بفعل التدخل السافر للسياسة في وظيفتهما في تأطير الشأن الديني، فالسعودية تشهد أكبر عملية لتوظيف الشخصية الرمزية للهيئات الدينية، والتي ستؤول نتائجها حتما إلى فقدان ثقة المواطنين فيها، الأمر الذي سيفسح المجال أمام "علمنة" شاملة للمؤسسات المختلفة التابعة للدولة السعودية. واضح أن العهد الجديد في مملكة ابن سعود، سيعرف تغيّرات جذرية، بدأت بالتخلي عن المؤسسات التي كانت ترعى الدين وتحرص على مدى إقامته في المجتمع، وذلك حتى يستجيب الإسلام "السعودي" الذي قام بتجديده الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- لمقتضيات الدين الجديد الذي أعلنت عنه جهات ما في أمريكا، والذي يتطلب عملية نحت وتعرية مستدامة للشرع، ستُغَيِّر مصادر التشريع في منظومة القوانين السعودية. فالعلمانية ستزحف على كل شيء، حتى يصل الأمر إلى الصلاة، كما هو الحال في الدول التي تمت علمنتها خلال مرحلة الاحتلال الأوربي، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تنبَّأ بهذا في الحديث الذي رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عرى الإسلام عروة، عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة). فالحكم بمقتضى الشرع اليوم يتم تفكيكه رويدا رويدا، ومن ينتظر أن تقوم السعودية بإلغاء الشريعة الإسلامية من خلال اتخاذ قرارات بذلك حتى ينتفض وينتقد ويتكلم، فهو واهم، إنما الإلغاء سيتم -لا قدر الله- بالمزاحمة المتتالية من طرف القوانين الوضعية لأحكام الدين، والتي ستجعل من الشريعة الإسلامية مجرد تاريخ مجيد، تتذكره الأجيال تماما كما تتذكر الشعوب الإسلامية نموذج الحكم الذي ساد في بلدانها قبل تسلط العلمانية بعد دخول الاحتلال. وما ستحدثه هيئة الترفيه إلى جانب الانفتاح الإعلامي على الإنتاج الفكري والاقتصادي والفني والثقافي الغربي، كفيل بأن ينحت منظومة القيم وينخر نظام الأسرة القيمي، فتصير كل المحرمات والموبقات موضوعا لمَطالب النخبة المثقفة المستغربة، بعد استشرائها في النسيج الاجتماعي، ثم يأتي دور الجمعيات والمنظمات التي ستنبت قريبا في المجتمع السعودي لتأهيله من أجل تطبيق "الديمقراطية"، التي ستكون هي الأمل الوحيد الذي تروج له المنظمات والدول لإنقاذ الشعب السعودي من الاستبداد والقهر والظلم، وبهذا ستتفكك كل البنيات الدينية والاجتماعية والسياسية المبنية على الشرع، كما سيطال ذلك التفككُ النظامَ القبلي والأعراف، فترى الإسلام الذي يقال عنه اليوم "وهابيا"، إسلاما "معتدلا" رخوا لا روح فيه ولا قوة، لا يزاحم العلمانية بشريعة ولا بعقيدة في ميادين تدبير الشأن العام، تماما كما هو الشأن في باقي دول ما بعد الخلافة الإسلامية. ستعلن العلمانية المحشوة في ثوب "الديمقراطية" أنها مطلب الجميع، وستغير كل شيء سوى الاستبداد والفساد، فهكذا تعودنا في كل البلدان الإسلامية دون استثناء. وبهذا يكون الخطر بات محدقا بمقدسات المسلمين الكبرى في مكة والمدينة. إن الحديث عن السعودية، ليس كحديث عن غيرها، فهي تَحكم مكة والمدينة وتدير شؤون الحرمين الشريفين، اللذين تتعلق بهما حقوق المسلمين جميعهم فالحرم حرم الله، وهو ملك لعباد الله المسلمين، والكلام هنا كلام عن مهبط الوحي، فإذا كان الدفاع واجبا عن فلسطين والقدس بصفتهما ملكا مشاعا لكل المسلمين، وعليهم واجب صيانتهما والوقف عليهما والموت من أجل حمايتهما، فمن باب أولى يكون ذلك أوجب عندما يتعلق بالحرمين الشريفين. وكما نؤكد على هذا، نؤكد كذلك أكثر على أن مهاجمة هيئات العلماء في أي بلد إسلامي كان، إنما يساهم في تسريع وتيرة النقض وتحفيز عملية الانتقاض، المذكورة في الحديث النبوي آنف الذكر. وقولنا هذا، لا يعني المنع من انتقاد ما يصدر عن الهيئات المذكورة، فالنقد إن كان بيانا للحق فهو نصرة للدين وللعلماء الذين يعيشون اليوم تحت ضغط عظيم، قد يصل إلى سل المناشير بدل ما كان يسل من السيوف، وما الخاشقجي عنا ببعيد. لذا يجب على المسلمين أن يهتموا بما يجري في بلاد الحرمين، ويواجهوا عملية العلمنة المتسارعة، التي اقتضت اعتقال كثير من العلماء العاملين والدعاة المشهورين بدفاعهم عن الأمة والصحفيين الرساليين الذين كانوا يقومون بعملية التوعية للأجيال، اعتقل الجميع دون تحديد لتهمة ولا محاكمة عادلة ولا غير عادلة، بل منهم من تجاوز السنين ذوات العدد في السجون المظلمة الظالمة على هذه الحال، وما ذلك إلا لترهيب من لم يسجن بعد ويأبى أن يساند الباطل. والحق أن أغلب العلماء والدعاة وإن عجزوا عن قول الحق فإنهم لا يتفوهون بالباطل. فحراس الدين والفضيلة من العلماء هم من يمثل الضمير الجمعي اليوم في السعودية، لذا تكمم أفواههم بالسجن والترهيب والتضييق حتى يخلو المجال لدعاة العلمنة دون معارضة ولا صعوبات. لكن رغم وجود هؤلاء العلماء الصابرين على الحق المدافعين عنه، استطاع النظام السعودي أن يوجِد من يشغل وظيفة التطبيل لعملية العلمنة، من أتباع التيار المدخلي، الذين يُلبسون قرارات الحكومة مهما كانت مناقضة للدين ومذهب البلاد لبوس الشرعية والإصلاح، معللين مواقفهم المشينة تلك، بأن الدولة بلاد التوحيد وتحارب الغلو وتصد دعاة الخروج على الحكام. في هذا السياق يجب أن يفهم بيان هيئة كبار العلماء الأخير والذي يعتبر جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، إنه صك اعتراف من هيئة شرعية لذبح العلماء المسجونين فكلهم متهم بالانتماء للإخوان، بل كل المشاريع الدعوية والجمعيات الأهلية والجامعات يشرف عليها من يسهل إلحاقهم بالإخوان المسلمين. وهل المسلمون في التصنيف الصهيوأمريكي سوى إسلاميين ينتمون إما إلى السلفية المصنفة لديهم إرهابية، وإما إلى الإخوان المسلمين التي صارت إرهابية لدى هيئة كبار علماء السعوديين المخترقة، وأما الباقي فمسلمون تقليديون ما لم يطالبوا باستئناف العمل بالشريعة الإسلامية، فالفيصل في الحكم بين الإسلامي والمسلم بات هو المطالبة بالشريعة الإسلامية، وما يجري في فرنسا وأروبا هو نابع من هذا التصنيف، إذ تخاف فرنسا مع تمدد الإسلام في بلادها أن تصبح للمسلمين مطالب ذات امتداد تشريعي إسلامي، لذا نراها تحارب حتى الذبيحة الحلال، بدعوى أنها تشجع على الانعزالية. عجيب هذا التوظيف السياسي لهذه الهيئة العُلمائية، حتى الأمريكان لم يستطيعوا تصنيف الإخوان منظمة إرهابية، حيث يمانع الديمقراطيون باستمرار في إطلاق هذا التوصيف على الجماعة، ويرفضون كل المحاولات التي قام بها ترامب لإقرار هذا التصنيف في ولايته المنتهية آنفا. الخطير في الأمر هو أن هذا البيان يمكن اعتباره في سياق التطبيع مع دولة الصهاينة، والحملة الشرسة لفرنسا على المسلمين في أوربا، صكا رسميا يعطي التفويض الكامل لكل الدول الغربية، يخول لها سن قوانين واتخاذ قرارات قاتلة للتواجد الإسلامي في بلدانها، وييسر لها حل كل الجمعيات والهيئات التابعة لكل الدعاة والعلماء التي تأسست خلال الخمسين سنة الماضية في أروبا وأمريكا، فالإخوان المسلمون -ومن يرتبط بهم فكريا وتنظيميا وشراكة-، هم جل من يشتغل بشكل عملي في إدارة شؤون الجاليات المسلمة وفي نشر الإسلام في العالم خصوصا في أمريكا وأروبا، فهل يعتبر هذا البيان انخراطا صريحا للسعودية في ملف حرب الإسلاميين في العالم وتضييق الوجود الإسلامي في العالم غير المسلم، والذي تشتغل عليه أمريكا والكيان الصهيوني وأروبا منذ الربيع العربي، وتتزعمه في المنطقة العربية دولة الإمارات. لكن العجيب والأعجب هو الصمت الذي يعتري مواقف النخب المثقفة غير الإسلامية في كل البلدان الإسلامية حيال تصفية تيار عريض من الفاعلين السياسيين والثقافيين والصحافيين والحقوقيين، لا لشيء سوى لأنهم إسلاميون؛ فأين ذهبت الديمقراطية وقيمها الوهمية؟ وأين دعاوى التعايش وقبول الآخر؟ لقد تبين أن ذلك ليس سوى إيديولوجيا تستعمل عندما يراد تفتيت المفاهيم الإسلامية وتفكيك البنيات الصلبة في بلاد الإسلام. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.