يكثر عند اقتراب موسم الصيف الحديث عن تبرج النساء وسفورهن لأن حرارة الشمس تدفع بعض النسوة إلى التخفيف من ملابسهن، فمن كانت لا ترتدي اللباس الشرعي عند خروجها من بيتها ستكون حرارة الشمس أدعى لها أن تقع في المزيد من التبرج والسفور. والمراد باللباس الشرعي للمرأة هو لياس ما يستر جميع جسدها إلا الوجه والكفين كما هو مذهب جمهور العلماء. وإذا كان ما لا يستر عورة المرأة عند خروجها من البيت يسمى تبرجا، فإن التبرج ليس مرتبة واحدة، إنما هو مراتب ودركات مختلفة، يبدأ بأخف أحواله كمن تكشف عن شعرها أو أطرافها مثلا، وينتهي نزولا إلى أن يصل إلى دركة من العري القبيح، يجسده الوصف المعبر من النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح "كاسيات عاريات". وبحسب المفسدة المترتبة عن السفور والتبرج على الفرد وعلى المجتمع يلحق المتبرجة اللوم والعتاب، ويصلها من الذنوب المناسب لتبرجها، وإن كان جميع صور التبرج والسفور يشملها حكم الحرمة في الشرع، ولكن كشف العورة الخفيفة ليست بنفس الدرجة في ميزان الشرع مثل كشف العورة المغلظة. هذا، ومع كثرة الحديث وشدة التحذير من تبرج النساء في موسم الصيف وحُقّ ذلك، إلا أنه يصحب هذه الشدة إطلاق هجوم عنيف من بعض الدعاة غفر الله لي ولهم، وكذلك من بعض من يتكلم بلسان الشرع من عموم الناس؛ إذ يصفون ولي المرأة المتبرجة زوجا كان أو أبا أو أخا بوصف قبيح يقشعر منه قلب المسلم عند سماعه وهو اسم "الديوث"، فيرمى ولي المرأة المتبرجة التي خرجت من بيتها سافرة بالدياثة، لأنه حسب هذا القائل أن ولي المرأة لم يمنعها من الخروج وهي بتلك الحالة المخالفة للشرع، أو سكت عنها، وعدم منعها أو سكوته عنها وهي في تلك الحالة عده من طرف هؤلاء دياثة فيه. وفي نظري أن إطلاق هذا الحكم على ولي المرأة المتبرجة يخبر عن سوء فهم لمعنى الدياثة شرعا، ويدل على قلة شفوف في مآل هذا الخطاب العنيف في الفضاء المفتوح على العصاة عموما وعلى من كان أهله لا يلتزم اللباس الشرعي عند خروجه من البيت، وبيان ذلك: أولا: #معنى_الديوث: تنقل كتب المعاجم أن أصل كلمة الديوث لغة من مادة "داث"، يقال داث الشيء دَيْثًا: أي لاَن وسهل. ويعدّى بالتثقيل فيقال: دَيَّثَهُ غيرُه إذا أذلّه من قولهم طريق مديث: أي مذلل، ومنه اشتقاق "الدَّيُّوثِ". وفي لسان العرب: "الدَّيُّوثُ: القَوَّاد على أَهله. قلت: ومن كان هذا حاله يقدم أهله لغيره ليزني بها فلابد أن يكون ذليلا ميت النفس لا غيْرة له، ولهذا أُطلق في معاجم اللغة على الذي لا يَغارُ على أَهله: دَيُّوثٌ". وهذا من باب شرح الشيء بالحكم الذي يستحقه فاعله، لا أنه شرحا لما يقوم به الديوث من دياثة، والمراد من هذه الإشارة هو الانتباه إلى أنه يصح إطلاق على كل ديوث أنه لا غيرة له، ولكن لا يصح إطلاق على كل من لا غيرة له أنه ديوث يرضى بزنا أهله. وقد جاء في المحكم والمحيط الأعظم "والديوث: الذي يُدخل الرجال على حرمته بحيث يراهم، كأنه ليّن نفسه على ذلك… وهو الذي تؤتى أهله وهو يعلم". ثانيا : لفظ الديوث في الحديث النبوي: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وصححه الألباني في الجامع الصحيح برقم: 5363. في هذا الحديث فسر النبي عليه الصلاة والسلام لفظ الديوث بالذي يقر في أهله الخبث، أي يقبل الخبث في أهله. والخبَث كلمة جامعة لكل شر ورذيلة وضدها الطيب، فمن الخبث النميمة بين الناس، ومن الخبث تضييع الصلاة، ومن الخبث أكل أموال الناس بالباطل، ومن الخبث الازدراء بالتعم، ومن الخبث الاستكبار على الناس وغمطهم، ومن الخبث شرب الخمر، وفي الخديث الخمر أم الخبائث..، فالمعاصي خبائث والطاعات طيبات، وكل عمل غير صالح يصح وصفه بالخبث، إلا ان المراد بالخبث في الحديث النبوي الشريف شيء مخصوص، فهو يراد به الزنا بقرينة أنه ارتبط بنساء الرجل، فالمناسبة واضحة في أن المراد بالخبث شيء مخصوص وهو الزنا، ولا شك أن الزنا شر الخبائث. ثم لا يعرف شرعا ولا لغة أن من أقر أهله على تضييع الصلاة مثلا يسمى ديوث، أو من أقر أهله على شرب الخمر يسمى ديوث. قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب: "الديوث: بتشديد الياء، الذي يقر أهله على الزنا، مع علمه بهم". فاجتمع في الديوث ثلاثة أمور: زنا أهله، وعلمه بذلك، وإقرارهم عليه. وبناء عليه، يعلم خطأ من أطلق على من أقر أهله على بعض المعاصي غير معصية الزنا ومقدماته بالديوث ، ومن ذلك ما قاله ملا علي القاري مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (ت: 1014ه): "والديوث الذي يقر أي يثبت بسكوته على أهله الخبث أي الزنا أو مقدماته، وفي معناه سائر المعاصي كشرب الخمر وترك غسل الجنابه ونحوهما". قلت : فقياس الإقرار على شرب الخمر أو الإقرار على ترك غسل الجنابة على الإقرار على الزنا بجامع المعصية قياس مع فارق بل فروق، فإن الجبلة والفطرة دلتا على أن من أقر أهله على الزنا ميت القلب لا يرجى منه خير، ولهذا ناسبه الوعيد الشديد من التهديد بحرمانه من الجنة، ويضاف إلى ذلك أن الإقرار على الزنا تهديد صارخ لخلط الأنساب وهتك للأعراض الذي حفظه من الضروريات الخمس، ومفسدة الزنا متعدية بخلاف مفسدة ترك غسل الجنابة، فهي تقتصر على صاحبها. وما قلناه على بعض المعاصي يندرج التبرج فيه كذلك، فالتبرج وإن كان قبيحا فهو أدنى من الزنا ومقدماته كاللمس والتقبيل ولا يقاس عليهما، نعم هناك من التبرج ما يكون أدعى لإثارة الشهوة، وهناك من التبرج ما لا يكون بذلك القدر من الفتنة رغم مخالفته للشرع، ولكن مهما يكن من الأحوال فإطلاق وصف الدياثة على من أهله قد اخل باللباس الشرعي لا يجوز شرعا، وقد سئل الشيخ ابن باز عن تعريف الديوث فقال: "الديوث هو الذي يرضى بالفاحشة في أهله، وذلك بأن يقرها على فعل الزنى ولا يمنعها من ذلك، ولا يغضب لله – سبحانه – لقلة غيرته وضعف إيمانه" اه. وكم من رجل لو أن أجنبيا اقترب من أهله مع تبرجهم وأحيانا وقوعهن في التبرج الشديد لخاصمه إلى حد الاقتتال، ولا يعني هذا أننا نهون أمر من يقر أهله على التبرج، بل نصرح أنه منكر، ويكبر هذا المنكر بحسب نوع التبرج، لكن رغم ذلك لا يجوز أن نصف من أقر أهله على التبرج بالديوث، لأنه له معنى معين، وإطلاقه في غير ما أطلقه الشرع هو من الظلم. ثالثا: يجب على الخطاب الشرعي الذي يتعرض لموضوع التبرج في الفضاء المفتوح أن يكون له أهداف واضحة مسطرة، نلخصها فيما يلي: 1 تبتدئ بتحديد الفئة المستهدفة، فلا أتصور أن من يتحدث عن التبرج يعتقد أنه يخاطب المحجبات، فهذا عبث وحرث في أرض محروثة، ورمي في غير مرماه، والإنسان العاقل منزه عن العبث، وإنما يخاطب المتبرجات أو أولياء المتبرجات، وخطاب هذا الصنف ودعوته إلى الحق لا يكون بثقيل القول، فإن من طبيعة الحق أنه تقيل ﴿إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلࣰا ثَقِيلًا﴾، بل يخاطب الشارد بخفيف القول أو لين القول المناسب للمقام كما تقتضيه الحكمة، وخصوصا أن الخطاب سيلقى في فضاء مفتوح. 2 تجنب الألفاظ المنفرة، فلا أظن أن من وُصف بالديوث سيقبل خطاب من وصفه بالدياثة حتى ولو كان حقا، فكيف به إذا كان الوصف في غير محله لا يناسبه، بل كما سبق تقريره أنه ظلم عليه. 3 إطلاق لفظ الدياثة على من أهله وقع في التبرج قد يفضي إلى الطلاق وشتات الأسرة، فالمسلم عموما والمغربي على وجه الخصوص لمعرفتي به لا يرضى أن يقاله له إنه ديوث، فإذا سمع من يتكلم بلسان الشرع أنه ديوث فقد يقدم على الطلاق في حالة عدم استجابة أهله له، مع أن الإقدام على الطلاق يجب أن يراعي الزوج فيه مسائل كثيرة وأن يوازن بين أمور عديدة، ليس هذا محل بسطها. 4 التبصر بالواقع، فإن مدار من أطلق صراخه على الأولياء ووصفهم بالدياثة ظلما بسبب تبرج أهاليهم يعود إلى ضياع مفهوم القوامة التي هي مسؤولية الرجال، هذه القوامة التي يعرف الجميع أنها تآكلت وحوربت وحوصرت، والرجل ضحية لذلك كما أن المرأة ضحية لذلك، فلا يليق والواقع كما وصفت أن يأتي الداعي إلى الله باحكام أصلها صحيح إلا أن الواقع لا يقبل تلك الأحكام إلا بنوع من التدرج المستبصر بواقع الحال ومآلات الأمور، وكما يقال إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع. خلاصة ما جاء في المقال: التبرج منهي عنه، وهو من الحرام الذي يجب على المسلمة اجتنابه؛ اللباس الشرعي للمرأة هو ما يستر جميع بدنها إلا الوجه والكفين؛ التبرج دركات، ومرتبة الإثم تتعلق بالمفسدة المترتبة عنه سواء على الفرد أو المجتمع؛ الخبَث كلمة جامعة لكل شر ورذيلة، والمراد بها في حديث اابن عمر "الزنا"، فهو من باب العام الذي يراد به الخاص؛ الديوث من اجتمع فيه ثلاثة أمور: : زنا أهله، وعلمه بذلك، وإقرارهم عليه. من أقر أهله على التبرج وقع في منكر، إلا أنه ليس ديوثا. خطاب ولي المرأة المتبرجة موضوع حساس، ذو خصوصيات وله تابعات، فيجب أن يتعرص له بالحكمة.