هوية بريس – الإثنين 29 يونيو 2015 يحل رمضان كل سنة بالمسلمين، ضيفا كريما، وشهرا عظيما، يتميز بنفحات إيمانية، وعطايا ربانية…، لا يجادل مسلم أن الصيام يعد من أفضل الأعمال، فهو من الأعمال الصالحة التي لا عدل لها، كما في الحديث الذي رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ" (رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني). وأكيد أن الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصِّيامُ والقرآنُ يَشْفَعَانِ للعبدِ، يقولُ الصِّيام: "ربِّ إنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ والشَّرَابَ بِالنَّهارِ؛ فَشَفِّعْنِي فيهِ، ويقولُ القُرْآن: ربِّ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِالليلِ؛ فَشَفِّعْنِي فيهِ، فيشَفَّعَانِ" (رواه أحمد وصححه الألباني). والملاحظة التي لا تخطئها العين، أن المسلمين في هذا الشهر الفضيل، يجتهدون في العبادات، وخاصة المحافظة على الصلوات، وحضور التراويح والتهجد، والإكثار من قراءة القرآن.. ومعلوم لكل مطلع على كتب السنة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في رمضان ينوع في الطاعات، ويجتهد في القربات، ويبتكر عليه السلام طرقا للخير، ويجسد التضامن بين المؤمنين..، فقد تبث أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر من أنواع العبادات، من صلاة وذكر ودعاء وصدقة وصلة رحم..، بل يخص هذا الشهر بأنواع من العبادة، بما لا يخص غيره من الشهور الأخرى، وفي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشرا أصحابه بقدوم رمضان ما يفيد هذا المعنى، فقد روى سَلْمانَ الفارِسِيِ أَنَّهُ قالَ خَطَبَنا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم آخِرَ يَوْمٍ مِن شَعْبانَ فَقالَ: "يَا أَيُّها النّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ مُبارَكٌ شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر، شَهْرٌ جَعَلَ اللهُ صِيامَهُ فَرِيضَةً وقِيامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا وهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، والصَّبْرُ ثَوابُهُ الجَنَّةُ، شَهْرُ الْمُواساةِ مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صائِمًا كانَ مَغْفِرَةً لِذنُوبِهِ وعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النارِ وكانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شيء، قَالُوا يا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ كُلُّنا يَجِدُ ما يُفَطِّرُ الصائِمَ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسلامُ يُعْطِي اللهُ هَذا الثَّوابَ مَنْ فَطَّرَ صائِمًا عَلى تَمْرَةٍ، أَوْ عَلَى شَرْبَةِ ماءٍ، أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ، ومَنْ سَقَى صائِمًا، سَقاهُ اللهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لا يَظْمَأُ بَعْدَها حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّةَ، وهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النّارِ" (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 7/216). فهل لنا في رسول الله قدوة وأسوة ؟ والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فجدير بنا أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكثر من أنواع الطاعات، وأصناف القربات، ونجتهد في الأخذ بطرق الخير المختلفة، ونبدع ونبتكر طرقا ووسائل جديدة ومتنوعة، في خدمة الناس ونفعهم، بغية التقرب إلى الله في هذا الشهر الفضيل. إن المستقرئ للسيرة النبوية العطرة، يدرك أن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يقوم على كافة أركان ومقومات النمط القيادي الابتكاري، الذي يدعم ويشجع الإبداع والابتكار في أعلى الدرجات، ولم يقتصر ذلك في مظاهر إدارته صلى الله عليه وسلم فحسب، بل شمل أيضا الإبداع في طرق وأبواب نفع الناس، وتعميم المصلحة والخير، وخدمة المجتمع، تحقيقا للتماسك الاجتماعي، والتراحم الإسلامي، والتضامن الإنساني، إرضاء لله رب العالمين. فمن فضل الله -عز وجل- أن جعل للخير طرقا كثيرة، وذلك من أجل أن تتنوع للمؤمنين الفضائل والأجور، والثواب الكثير.. وأصول هذه الطرق ثلاثة: إما جهد بدني، وإما بذل مالي، وإما مركب من هذا وذاك.. وقد خص الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين بابا، عنونه: "باب بيان كثرة طرق الخير" وقدم له ببعض الآيات القرآنية للاستشهاد على هذا المعنى، من مثل قوله تعالى: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) (البقرة:215)، وقال تعالى: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) (البقرة:197)، وقال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7)، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ) (الجاثية:15)، ومعلوم أن الآيات في هذا الباب كثيرة. والأحاديث التي أوردها الإمام النووي رحمه الله تعالى في هذا الباب، ذكرت على سبيل التمثيل، أنواعا من الطاعات، وأصنافا من القربات، ودلت على طرق متعددة للخير، منها : الصلاة على وقتها؛ بر الوالدين؛ الإنفاق في سبيل الله؛ التنصيص على أن الصدقات ليست صدقات مالية فقط، بل هي عامة ، فكل أبواب الخير صدقة، كل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة؛ ركعتا الضحى؛ إعانة الرجل في دابته وحمله عليها، أو رفع له متاعه عليها؛ تعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق؛ الأذى يماط عن الطريق؛ في بضع أحدكم صدقة؛ ما تجعله في فم امرأتك صدقة؛ من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى..؛ تعاهد جيرانك بمرقة أو غيرها.. تلقى أخاك بوجه طلق؛ من سقى مسلماً على ظمأ؛ سقي الكلب؛ شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين..؛ إذا توضأ أن يستشعر أن وضوئه يكون تكفيراً لخطيئاته؛ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ كل معروف صدقة؛ ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة… ومن المقاصد الشرعية من تنوع الطاعات وكثرة طرق الخير، ألا يمل العباد. فلو كان للخير طريق واحد، لمل الناس من ذلك وسئموا، ولما حصل الابتلاء، ولكن حيث تنوع، كان ذلك أرفق بالناس، وأدعى إلى الاجتهاد والتنافس. قال ابن عطاء الله السكندري في الحكم: "تنوعت أجناس الأعمال لتنوع واردات الأحوال". فهو رحمه الله تعالى يشير إلى كثرة الأعمال الموصلة لمرضاة الله، ويؤكد على أن كل القربات التي ينال بها المسلم مرضاة الله تعالى، مؤلفة من عمل وقصد، فلا قيمة للعمل مهما كان في مظهره مقبولاً ونافعاً، إن لم يكن القصد الدافع إليه مجرد الحصول على مرضاة الله ومثوبته. وفي زماننا هذا لا تقل الحاجة إلى تحديث الأداء وابتكار الطرق، واستخدام الوسائل المستجدة في العلم والتكنولوجيا، في تحقيق النفع للناس، وتوثيق التماسك الاجتماعي، والنهوض بالأمة، وكذلك في إيصال الدين للخلق، وإقامة الحجة عليهم، وإيصال علوم الدين إلى كل الآفاق. ولابد عند ابتكار طرق الخير والدعوة إلى الله من مراعاة أمرين أساسيين: الأول: زيادة القدرة على توليد الأفكار وتنويعها؛ الثاني: تطوير المهارات لتطبيق تلك الأفكار، والعمل على تطبيقها على أرض الواقع. فهناك أنواع كثيرة من الطرق الخيرية والأفكار الدعوية التي يمكن الاستئناس بها، منها على سبيل المثال لا الحصر: أ: الصدقات الجارية مثل: تعليم الأفراد تلاوة القرآن أو المساهمة في تعليمهم، أو التبرع لدور القرآن الكريم تدعيما لها؛ تحبيس المصاحف وتوزيعها؛ المساهمة في بناء المساجد؛ حفر بئر حتى ينتفع منه أي إنسان أو طائر أو حيوان؛ ب: أصناف وطرق أخرى للخير ونفع الناس والحيوان من مثل: كفالة اليتامى؛ المساهمة في بناء المستشفيات؛ التبرع بالدم لفائدة المرضى والمصابين؛ التبرع بالدواء المتبقي عندك ولا تحتاجه؛ التبرع بنظاراتك الطبية أو إطارها لمن يحتاجها من ضعاف البصر؛ شراء الأطراف الصناعية، والأجهزة التعويضية لذوي الاحتياجات الخاصة، والكراسي المتحركة والسماعات للمحتاجين، ودعوة المحسنين وتشجيعهم للتبرع في هذه المجالات؛ تزويد المسلمين في البلاد التي تعيش حروبا ونكبات، بالمال والطعام والملابس والدواء، عن طريق الجمعيات التي تعمل بالطرق القانونية؛ توزيع أكياس التمر على المساجد، التي توجد في الأحياء الفقيرة والهامشية في رمضان، لتوزع على الصائمين عند الإفطار؛ التصدق بما فاض عن حاجتك من الطعام للجمعيات الخيرية، أو إرساله للفقراء والمحتاجين؛ وضع طبق به طعام، وصحن فيه ماء، للعصافير والطيور بسطح دارك أو النوافذ؛ إعطاء الأكل المتبقي للحيوانات الضالة مثل القطط والكلاب؛ المساهمة في شراء سيارات لنقل الموتى، أو توريدها من الخارج، على شكل هبات من الجاليات ومن المنظمات الخيرية، لأنه لا يوجد في بعض الدواوير والقرى ما ينقلون به مواتهم؛ التصدق بوقتك وخبرتك لفائدة المحتاجين، كيف ما كان تخصصك ومهنتك، مثلا إذا كنت طبيبا، تخصص يوما للحالات الفقيرة، إذا كنت أستاذا تخصص دروسا للدعم للتلاميذ الفقراء واليتامي، نجارا، أو حدادا… كل صاحب مهنة يمكنه أن يتصدق بخبرته، وجزء من وقته.. التبرع بالكتب المدرسية القديمة للمكتبات في المناطق الفقيرة، وللتلاميذ والطلبة الفقراء؛ التصدق بالماء خاصة في الأماكن النائية، وأيضا التبرع بالبراميل والزجاجات الفارغة لملء المياه في الأماكن التي يقل فيها الماء، ويحتاج الساكنة لمثل هذه الوسائل البسيطة.. لا شك أن للخير طرقا لا تعد، ووسائل لا حصر الله، فلنتنافس جميعا في ابتكارها، والاجتهاد فيها، بما يحقق نفع للناس، وإرضاء الرب سبحانه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس من انتفع به الناس و شر الناس من تأذى به الناس، وشر من ذلك من أكرمه الناس اتقاء شره، وشر من ذلك من باع دينه بدنيا غيره" (الشيخ المفيد، الإختصاص، ص:243).