الحمد لله العليم الحكيم اللطيف لما يشاء، رب البلاء والسَّقَم وأنواع الوباء، خالق الدواء والعافية وصنوف الشفاء، والصلاة والسلام على سيدنا أحمد أولانا بأنفسنا وأشفقنا عليها حين تُغير المحن والعُطوب، وأبصرنا بفقه البلوى ونوازل الخطوب، وعلى عترته الأطيبين وصحابته الأنجبين، والمستمسكين بهديه العاصم المبين. وبعد، فإن الناس لو سيقوا اليوم بالفعل – ضمانا لنجاتهم من بطش كورونا – إلى الإسلام لانساق العالم قاطبة إليه، مع أنهم يساقون إليه بالقوة كل يوم سوقا، ويحشرون إلى مأرِز آيته البينة حشرا، بل لو أن مس كورونا الفتاك تشكل لأمم الأرض ملكا ذا سلطان، ونادى فيهم: "أسلموا تسلموا" لأسلموا له جميعا مذعنين منيبين، ولتركت كل أمة حكم من يحكمها إلى حكمه؛ وهي ترى رأي العين ما يُعجز به هذا الداء البطّاش أشد الأنظمة قوة وآثارا، وينقض به قواعد استبداد عالمي وضعوها من قرون عنوة واخيتارا، ويدك به زعامات راسيات شامخات في المال والاقتصاد، والسياسة والأعمال، وسواها من أركان الهيمنة ..، هي ذي يُرى كل لحظة ويُسمع كيف يُنسف جبروتها العتيد، ويكسر استكبارها العنيد، وكيف تُستضعف عنوة وتستلب زعامة زعامة، وتتتابع مشاهد مصارعها السريعة المفزعة تحت غارات كورونا الكاسحة المتعاقبة. لقد كفى بعض ما يجري – فضلا عن كله – ليعرف العالم كله – خلال أيام – أن ضعف هذه الأنظمة المهيمنة في قوتها، وأن خلال ما استبدت به من قرارات التحكم العالمي آيةَ استعبادها، وأن قرارات التحكم العالمي الجارية الآن ليس لها منها اسم ولا رسم ولا ختم، أو تحمل قسرا – وهذا أبلغ في تشخيص مشهد استعبادها اللاهي – على تصديره باسم صاحبه الجديد، ثم ترسمه وتختمه بما تكره. وإن المحور الرئيس – خبرا وأثرا – في كل هذا الذي يجري ليس مجرد الوقوف مع مستجِدات الأرقام واحتساب الزمن وتفاوت الأقدار، بل النظر وإعمال مراجع الاعتبار، ليكون تأمل درس الوقت أمتن، وتكون فحواه البعيدة الدلالة أجلى وأبين، وبعد حين تقول أو يقال لك، وتَروي أو يروى لك العجائب من قصص دخول الناس في دين الله أفواجا. إن أعظم خصائص الإعجاز في دين الإسلام، وأدقها صلة بآية كورونا البينة وما أرسلت به: بعض ما في قول الله تعالى – من سورة الفتح "28" -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا)، وهي المعجزة المهيمنة على سائر معجزات الإسلام النفسية والحسية، مما جرى من قبل، وسيجري من بعد، لأن غايتها جميعا ومقصدها: 1 -أن يقع لدين الإسلام الخاتم برهان الظهور على كل الأديان سماويها وأرضها، مثل ما سيأتي من نزول نبي الله وكلمته عيسى عليه السلام حاكما بشريعة الإسلام، إعلاما بأن الظهور لهذا الدين الخاتم. 2 -أن غفلة العالم وسَدَره مهما طالا وعمّى عليهما الاستبداد يستحيل أن يحجب غيمُها رؤية هذه المعجزة المهيمنة – ظهور الدين الخاتم -، أو تُوقف سريان أثرها المستمر خلال الوقت، وأن تواريها أثناء فترات الكمون المتمادية أشبه بتواري المتأهب الراصد، فإذا ظهر عرف الناس أن قوته في تواريه، وعرفوا آنئذ سر غفلتهم، وأنها ليست غفلة الساهي أو اللاهي، فهذه غفلة لا تستحق تذكيرا إعجازيا، ولكنها غفلة المنتبه الحذِر الذي تحدى سواه أن ينتبه انتباهه، أو يحذر حذره، ثم اغتر بما علِم وجمَع اغترار من قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي). فتأمل – رعاك الله – سر بطش كورونا كيف قام على غفلة العالم، وتفشيه المذهل في الدول الأشد انتباها وحذرا، المستبقة لمن دونها من الدول الأخرى إلى زعامة الدنيا بمسافات خارجة عن حصر الأرقام، المنادية فيها مع كل إنجاز سياسي أو اقتصادي أو صناعي بالتحدي المعرفي والحضاري. ثم تأمل استمرار زحف كورونا العالمي؛ كلما بذل الناس في كفه حذرا أشد أحاله غفلة أشد، وها هي ذي الصين التي تعافت منه، وأحاطت بسبل دفعه عنها لم يستقر أمنها منه بعد. 3 -ثم انظر – بارك الله فيك – إلى الوفاق المبين بين آية التدوينة وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح من حديث سيدنا تميم الداري رضي الله عنه: (ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار..)، وأن من أسرار الإعجاز البياني فيه الموائم لسياق حديثنا: اللزوم في فعل (ليبلغن)، ففيه دليل على أن هذا من قبيل إعجاز دين الإسلام الذاتي، لا سيما وأن أهله اليوم مغلوبون مستضعفون، وأن استضعافهم قد سلبهم كل حيلة في ظهورهم فضلا عن إظهار دينهم. فإن قيل: فعل الظهور في الآية لا يساعد على ما ذكرت … فالجواب أن الفاعل في الآية الرب جل وعلا، ولو جعل كذلك في الحديث لاحتمله، لكن رد ظهورِ الدين وبلوغِه إلى الله تعالى لا يسقط المراد من الوقوف مع معنى اللزوم في الفِعْلَين، لأن ذلك الرد تحصيل حاصل ما دام الدين دين الله تعالى وأمرُه أمرَه جعلا وإبلاغا، فلزم الجمع بين الآية والحديث لصحة اللزوم في فعل الظهور، ولدفع التعارض الذاهب بهذا الأصل العظيم من أصول الإعجاز في دين الإسلام. بل لو قامت للإسلام بالمسلمين قيامة لما رُد ذلك على وجه الحقيقة إلا إلى الله تعالى: استعمالا لمن استعمل منهم وإصلاحا ونصر وتأييدا، والأدلة على ذلك خلال نصوص الوحيَين أكثر من أن تحصى. فالحاصل: اشتمال الإسلام على إعجازه الذاتي الذي يستبقي الله تعالى له به أسرار البلوغ والظهور، ويجري سننهما العادلة بعلمه عز وجل وحكمته، النافذة في العالم ولو كان أهل الإسلام مغلوبين مستضعفين في الأرض. والله أعلم وأحكم، وهو الموفق للحق لا هادي سواه.