إمام خطيب مسجد التقوى بمدينة كورتريك ببلجيكا الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فكما نعلم ونعايش ذلك جميعا، فقد قدر الله عز وجل أن يجتاح عالمنا خلال هذه الأيام هذا الوباء الفتاك الذي يسببه ما سمي ب "فيروس كورنا". وإلى حد الساعة التي أكتب فيها هذه الأسطر وحسب بعض المصادر الإخبارية الموثوقة، فإن عدد المصابين بهذا الفيروس عبر كل دول العالم يقترب من النصف مليون مصابا، فيما تخطى عدد الوفيات اثنين وعشرين ألفا. وفي بلجيكا التي أقيم بها، فقد بلغ عدد المصابين الذين نقلوا إلى المستشفى خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية أربعمائة وتسعين مصابا، أما عدد الوفيات فقد بلغ تسعة وستين خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية فقط، وفي هولندا فإن حصيلة الإصابات والوفيات تقارب ضغف ما هي عليه في بلجيكا! والحصيلة لا تزال في ارتفاع مستمر. نسأل الله السلامة والعافية. أمام هذا الوضع الخطير، اتخذت كل دول العالم التي وصلها هذا الفيروس إجراءات وقائية قصد الحد من انتقال العدوى وبالتالي تقليل الخسائر سواء على مستوى الإصابات أو الوفيات. ومن بين هذه الإجراءات ما أعلنته بعض الدول الأوروبية من توقيف الدراسة والتظاهرات الرياضية والثقافية والاجتماعية ومنع التجمعات التي يتجاوز حضور المشاركين فيها عددا معينا. ومن بين هذه الإجراءات كذلك عدم المصافحة وترك مسافة لا تقل عن متر ونصف بين كل شخص وآخر وغيرها من التدابير الوقائية. وللتذكير فإن هذه التدابير تختلف من بلد لآخر ومن مرحلة لأخرى حسب تقديرات المختصين لخطورة الوضع وحسب سرعة وكثافة انتشار المرض. هذه الإجراءات الوقائية، لم تستثن المساجد ولا غيرها من دور عبادة غير المسلمين لاعتبارها أيضا أمكان تشهد تجمعات بشرية يمكن أن تنتقل من خلالها عدوى المرض. أمام هذا الوضع واستجابة لهذه التعليمات أعلن معظم مسؤولي المساجد وأئمتها في الكثير من الدول الأوربية كبلجيكاوهولندا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا…أعلنوا غلق المساجد تماما وتعليق الجُمع والجماعات مؤقتا حتى ترتفع هذه الإجراءات الوقائية ويأمن الناس من انتقال العدوى بين زوار المساجد. هذا، فيما ارتأت فئة أخرى الإبقاء على شعيرتي الجمعة والجماعات بأقل عدد ممكن حتى لا تتعطل الشعائر ( في نظرهم). بل إن من هؤلاء من يرى أن إغلاق المساجد وتعليق الجمع والجماعات حتى في هذه الظروف لا يجوز شرعا !؟ ويحكمون بتأثيم من فعل هذا من مسؤولي المساجد وأئمتها لأنهم عطلوا الواجبات ومنعوا المسلمين من ممارسة شعائرهم التعبدية !!؟ ومتابعة مني لهذا النقاش بغية إثرائه أقول وبالله التوفيق: بادئ ذي بدء: لست من أهل الفتوى ولا ألزم أحدا برأيي في هذا المقال، وما سأذكره مجرد اجتهاد شخصي مبني على معرفتي البسيطة بنصوص الشرع وبواقع المساجد وزوارها من خلال ممارستي لمهام الإمامة والخطابة ما لا يقل عن عشرين سنة في دول أوروبية مختلفة، وبناء كذلك على معرفتي بخطورة هذا المرض الفتاك وطرق انتشاره كما فهمناها من المختصين. وهدفي وراء كتابة هذه الأسطر هو توضيح بعض الأمور التي لا ينتبه إليها المعارضون لغلق المساجد والنظر إلى هذا الأمر من زوايا مختلفة ومناقشة بعض آرائهم ومواقفهم بأدب وبعلم بإذن الله تعالى، فأقول وبالله التوفيق: أولا: إن الاختلاف حول هذه المسألة اختلاف فقهي يستلزم أن يحسن كل طرف الظن بالطرف الآخر، وأن لا يرى الذين ضد غلق المساجد أنفسهم أغير من غيرهم على بيوت الله وعلى إقامة الشعائر بها، كما يستلزم أن لا يرى من هم مع غلق المساجد أنفسهم أحرص على أرواح الناس من الفئة الأخرى. فالكل يبتغي مرضاة الله سبحانه، والله يجزي كلا حسب نيته وعمله بقناعته. ثانيا: مما لا شك فيه أن علماء المسلمين مجمعون على وجوب صلاة الجمعة في حق من خلا من الأعذار المبيحة للتخلف عنها. أما صلاة الجماعة فقد اختلف حكمها من مذهب لآخر، فمنهم من يرى أنها سنة مؤكدة ومنهم من يرى أنها فرض كفاية ومنهم من يرى أنها فرض عين في حق من خلا من الأعذار، وأن صلاة المنفرد لا تصح مادام خاليا من الأعذار قادرا على حضور الجماعة. ثالثا: إن صلاتي الجمعة والجماعة كلاهما يسقط بسبب الخوف، كما بين الفقهاء سواء كان هذا الخوف على النفس أو على المال. بل قد نص الفقهاء على أنهما تسقطان حتى على من خاف على نفس الغير كمن يقوم بتطبيب مريض يخاف عليه الهلاك إن هو حضر الجمعة، أو من يحرس مال غيره يخاف عليه الضياع أيضا إن هو حضرها. كما نص الفقهاء كذلك أن الجمعة والجماعات تسقطان بسبب المرض أو بسبب الخوف من حدوثه. وتسقطان أيضا بأسباب أخرى مفصلة في كتب الفقه لا يتسع المجال هنا لذكرها. رابعا: إن حالة الخوف التي استدعت هذه الإجراءات محققة، وليست وَهْماً ولا مبالغا فيها، إذ يؤكد هذا كل المختصين وتؤكده أعداد المصابين والوفيات التي ذكرتها آنفا، وللتو فقد بلغني خبر مفاده أن عدد الوفيات بإيطاليا خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية فقط قد قارب الألف وفاة! خامسا: إن حالة الخوف من المرض تنطبق على الجميع، فكل فرد إما يُخاف منه أن يكون مصابا فينقل المرض إلى غيره، أو يُخاف عليه أن يُنقل إليه المرض من غيره، وبالتالي، فإن حالة الخوف المحقق هذا تُسقط الجُمع والجماعات عن كل من هو موجود بهذه البلدان التي هذا حالها. سادسا: لقد اختلفت آراء المذاهب الفقهية في العدد الذي تصح به الجمعة، فمنهم من يرى أنها لا تصح بأقل من اثني عشر، ومنهم من اشترط لصحتها حضور أربعين رجلا. وبناء على رأي ثلاثة من المذاهب الفقهية المعتبرة فإنها لا تصح متى قل العدد عن الاثني عشر كما عند المالكية أو عن الأربعين كما عند الحنابلة والشافعية. سابعا: من الفقهاء من اشترط لصحة الجمعة بالإضافة إلى العدد أن يكون كل الحاضرين من المكلفين بها، أي ممن تجب في حقهم، وبناء على هذا الرأي فإن صلاة الجمعة لا تصح في مثل هذه الظروف، لأن عذر الخوف أسقط التكليف بها عن الكل، ومن سقط عنه التكليف بها فإنها لا تنعقد ولا تصح بحضوره ولو بلغ العدد المطلوب في مذهبه! ثامنا: لو سلمنا بجواز إقامتها بأقل عدد أجاز بعض الفقهاء انعقادها به وهو الثلاثة كما يرى الأحناف، فإن هذا الجواز مرتبط بمدى الالتزام بشروط وتعليمات السلامة التي حددتها الجهات المختصة، وفي حال العجز عن الالتزام بهذه التعليمات فإن إقامة الجمعة والجماعات مخالفة للشرع والقانون. فهي مخالفة للشرع لأن فيها الإلقاء بالأنفس إلى التهلكة وتعريض حياة الناس للخطر، وهذا أمر ممنوع شرعا، كما أن مخالفة هذه التعليمات قد تعرض المساجد والقائمين عليها لمتابعات قانونية تضر في النهاية بمصالح الإسلام والمسلمين. تاسعا: حسب المعطيات المتوفرة حول طرق انتشار هذا المرض وبالنظر إلى معرفتي بواقع المساجد وأحوال زوارها، أستطيع القول بأن فرص انتقال العدوى داخل المساجد أقوى بكثير بالمقارنة مع أماكن التجمعات الأخرى، وذلك للأسباب التالية: – إن الكثير من زوار المساجد وخاصة في الغرب لا يفهمون اللغة العربية التي يتحدث بها الأئمة -في الغالب- ولا يفهمون كذلك لغة البلد المقيمين به لكونهم قدموا من بلدان أخرى وبالتالي، فمن المحتمل أن لا تبلغهم مضامين الإجراءات الوقائية بالشكل الصحيح مما يجعل التزامهم بها غير مجزوم به. – إنني لاحظت ومن منطلق التجربة، أن العديد من زوار المساجد ممن هم على وعي بهذه التعليمات والشروط لا يلتزمون بها. وكم رأيت من أناس داخل المساجد يصافحون بل ويعانقون بعضهم بعد صدور التعليمات بمنع المصافحة وبعد إشاراتي المتكررة إلى ذلك من على منبر الجمعة؟! وكم رأيت كذلك من أناس يحضرون إلى المسجد وأعراض الزكام (التي قد تكون أعراض هذا المرض الخطير) بادية عليهم، من سعال وعطاس… مع العلم أننا نبهنا مرارا إلى أن من بدت عليه هذه العلامات فعليه البقاء في بيته. لكن من يستجيب لهذا النداء؟ إذ لا حياة لمن تنادي! – وفي خرق سافر لإجراءات الوقاية اللازم اتخاذها، وتأكيدا على ما قلت من صعوبة انضباط زوار المساجد بهذه التعليمات، فقد بث بعض الخطباء بتاريخ 20 مارس خطبة وصلاة الجمعة على المباشر، وقد اصطف المصلون كالعادة جنبا إلى جنب وأكتافهم تلامس بعضها! في حين أن التعليمات توجب الحفاظ على مسافة لا تقل عن متر ونصف المتر بين كل شخص وآخر. نفس الخطباء نقلوا الخطبة الماضية (خطبة 27 مارس) على المباشر أيضا، لكنهم لم ينقلوا الصلاة! حتى لا يظهر للعلن مخالفتهم للتعليمات! – إن تعليمات السلامة توصي بغسل الأيدي بالصابون بشكل جيد أو المطهرات عند الدخول إلى أماكن التجمعات وعند الخروج منها، لكن معظم المساجد لا تتيسر فيها هذه الأمور. – إن المصلين في المسجد يتنقلون من مكان لآخر وليس لأحد مكان قار لا يصلي فيه غيره، ومعنى هذا، أنك ستسجد في مكان سجد به أناس آخرون وقد تنتقل العدوى من مكان السجود، لا سيما وأن هذا الفيروس يبقى حيا على الزرابي والفرُش لمدة تتكرر فيها الصلوات الخمس مرات عديدة ! – إن الكثير من زوار المساجد من كبار السن المصابين بأمراض مزمنة، ويؤكد هذا كثرة الكراسي التي تعج بها المساجد. وهذه الفئة كما نعلم هم أشد الفئات العمرية تأثرا بهذا المرض نظرا لضعف مناعتهم. – إن أوضاع المساجد وطبيعتها لا تسمح بإلزام الناس بامتثال تعليمات الوقاية، فلا الأئمة ولا المسؤولون يملكون هذه الصلاحية ولا هم قادرون على إلزام الناس بشيء، كما يؤكد الواقع. وإذا كان المسؤولون عاجزين حتى عن إلزام زوار المساجد بدفع واجبات الانخراط فكيف يستطيعون إلزامهم بشروط الوقاية؟ عاشرا: مما يجعل الأمر أكثر تعقيدا -وحسب شهادات الخبراء والمختصين-، فإن الإنسان قد يكون حاملا للفيروس، لكن لا تظهر عليه علامات وأعراض المرض خاصة في الأيام الأولى ورغم ذلك فقد يكون مصدرا لنقل العدوى! حادي عشر: إن الذين اعتادوا الحضور إلى المساجد من أجل الجُمَعِ والجماعات ثم حبستهم عنها هذه الإجراءات ينالون أجرهم غير منقوص كما هو معلوم من مصادر الإسلام فيمن حبسه العذر عن طاعة اعتاد القيام بها. ثاني عشر: إن إقامة بعض الأشخاص من الجماعة الجُمع والجماعات لا يسقط التكليف عن الباقين –كما يظن البعض- خاصة في صلاة الجمعة، لأنها ليست فرض كفاية إذا قام به البعض سقط التكليف عن الباقين، فالذي أسقطها هو عذر الخوف، وليس إقامة البعض نيابة عن الكل! فالذين لم يحضروا لا يستفيدون شيئا ممن حضروا. ثالث عشر: إن اختيار بعض أفراد الجماعات والسماح لهم دون غيرهم بإقامة الجمع والجماعات، قد يسبب انقساما ومشاكل داخل الجماعات، وقد حدث هذا في بعض المساجد. رابع عشر: إن استمرار بعض المساجد في إقامة الجمع والجماعات ونقل ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي سبب ولا يزال يسب مشاكل وحرجا لدى بعض الأئمة والمسؤولين عن المساجد التي لا تقوم بذلك. حيث يتساءل الكثيرون من أفراد الجماعات: لماذا مسجدنا مغلق بينما المسجد الفلاني لم يغلق؟ ولماذا لا نصلي الجمعة كما يصلونها…؟ خامس عشر: إن إغلاق المساجد بشكل مؤقت ومن أجل الحفاظ على أرواح الناس لا يعتبر أبدا تعطيلا لشعيرتي الجمعة والجماعة! فتعطيل الشعائر لا يوصف به من رُفع عنهم التكليف! فحالة الخوف رفعت التكليف عن الكل، وكيف يحاسب إنسان على شيء لم يكلف به!؟ فالمسلمون يتحسرون على عدم حضورهم الجمع والجماعات وقلوبهم معلقة بالمساجد، وهم الذين بنوا هذه المساجد وضحوا من أجلها، فكيف يعتبرون قد عطلوا الشعائر إن هم أغلقوا المساجد للغايات المذكورة؟ سادس عشر: إن البعض يلوم من أغلقوا المساجد، لكون قرار الإغلاق لم يصدر بشكل نهائي وبصيغة الأمر من السلطات الرسمية وإنما جاء في بعض الدول على شكل نصائح، وهنا أقول: هب أن هذه الدول لم تنصح حتى بالإغلاق، فهل هذا مبرر لعدم الإغلاق؟ إن شهادات الأطباء والمختصين والواقع كما نعايشه جميعا، كل هذا يكفي لاتخاذ هذا القرار، إلا إذا كان البعض يعتقد أن الساسة وأصحاب القرار أرحم بالمسلمين وأحرص على حياتهم من شريعتنا السمحة، فحينئذ نستطيع فهم هذا الطرح! سابع عشر: أتفهم رغبة بعض الأئمة والخطباء في الإبقاء على التواصل مع أعضاء الجماعة وربطهم بالمسجد، ولكن هذا يمكن تحقيقه عبر بث الدروس والمواعظ على وسائل التواصل أيضا، وليس بالضرورة عبر خطبة الجمعة. ثامن عشر: إن قرار إغلاق المساجد وتعليق الجمع والجماعات قد عُمِلَ به في الكثير من الدول الإسلامية التي بها آلاف العلماء والمفتين المشهود لهم بالعلم والتقوى وقد وافقوا على هذا القرار وأيدوه، أفلا يسعنا ما وسعهم؟ خلاصة القول: إن الواجب في الوقت الراهن من وجهة نظري هو إغلاق المساجد وتعليق الجمع والجماعات، لأن صلاة الجمعة كما يؤديها البعض الآن لا تستوفي شروط الصحة كما نصت عليه معظم كتب الفقه، كما أن حضورها لا يستوفي شروط السلامة، ومن شأنه كذلك إحداث الفتنة بين أعضاء الجماعة وبين المسلمين بشكل عام. وإذا كانت فريضة الجمعة قد سقطت بسبب حالة الخوف ولم تعد واجبة، فهل من الفقه ومن الحكمة أن يصر البعض على القيام بها وهي ليست واجبة رغم ما يترتب على هذا الأمر من المفاسد والمخاطر التي أشرت إلى بعض منها!؟ نداء أخير : لا يفوتني في الأخير أن أوجه هذا النداء الإيماني والإنساني إلى مسؤولي وجماعات المساجد: إذا كان الله تعالى لا يحرم مؤمنا من الأجر بسبب توقفه عن العمل لعذر، فإياكم أن تحرموا الأئمة من أجرتهم كاملة خلال هذه المدة، أو أن توقفوهم، فقد تواثقتم على العمل وقد عزموا على القيام به –بل كانوا يقومون به- فإذا حالت هذه الظروف دون قيام الإمام بالخطابة أو الإمامة فمن الواجب الإيماني والإنساني الإبقاء على أجرته وكل حقوقه كاملة لأنه لم يتوقف عن عمله طوعا بل لظرف خارج عن إرادته كما تعلمون. والله تعالى أعلى وأعلم.