كانَ من نوازلِ الوقتِ التي هيَّجتْ حفيظةَ الناسِ والسلطةِ معاً، خروجُ مسيرةٍ ليليَّةٍ للدعاء والتكبير والتضرع لله تعالى لصرفِ الوباء، وقد ورد عليَّ سؤالٌ عن حكمِ كسرِ الحجرِ الصحيِّ بهذه المسيرة، فحرَّرتُ الجواب في ثلاثةِ معاقدَ: 1 . الاحتشادُ للدعاءِ في الشوارعِ بدعةٌ لم يثبت في السنةِ الصحيحةِ ما يُنهضُ مشروعيةَ الاحتشاد في الشوارع لاستجداء رحمة الله تعالى ولطفهِ لصرف الأوبئة، والثابت من حديث عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: ( قدمنا المدينة وهي وبيئةٌ، فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلالٌ، فلما رأى رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ شكوى أصحابه، قال: اللهم حبِّب إلينا المدينةَ كما حبّبت مكة أو أشدّ، وصحِّحها، وبارك لنا في صاعِها ومُدِّها، وحوِّلْ حُمَّاها إلى الجُحْفةِ )[1]، ويؤخذ من الحديث مشروعيةُ الدعاء عند نزول الوباء، ولو كان الاجتماعُ له مشروعاً على صوتٍ واحدٍ، لأمر النبي _ صلى الله عليه وسلم _ بهذه الهيئةِ، مع كون النازلة عظيمةً، وما سكت عنه الشارعُ مع قيامِ مقتضيهِ فالأصلُ الوقوفُ عند حدّه من غير زيادةٍ أو نقصانٍ على ما قرَّره الشاطبيُّ رحمه الله، والخير كل الخير في الاتباع. ويستحبُّ _ إلى الدعاء _ قنوت النوازل في الصلواتِ المكتوبةِ كلِّها؛ لأنَّ الوباءَ أشدُّها، وفيه ذهابُ العلماء والصلحاء، وفَناء طاقاتِ الأمة. والجمهورُ على استحباب القنوت اجتماعاً لصرف الطاعون[2]، والوباءُ في حكمهِ. بيد أن الأصلحَ في زمن استحكام العدوى وانتشارها أن يقنتَ الناس أفراداً في بيوتهم، ويدعون بما يناسب حالهم، عملاً باختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في جواز القنوت الفرديِّ في النوازل[3]، وقد ذكر ابن حجر مشروعيته لرفع البلاء [4] ولم يأتِ بأصلٍ لها، بيد أنني أرى أن العدول عن هيئة الاجتماع إلى هيئة الانفراد من بابةِ الاقتضاء التبعيِّ، وهو اقتضاءٌ مسوَّغٌ بضرورةِ التباعد الجسديِّ بين المصلين القانتين، ومصلحةِ استجلابِ عفو الله تعالى. ويُشرع التكبير وإخراجُ الصَّدقاتِ كما شُرع ذلك عند رؤية الآيات الكونية المخيفة، لحديث عائشة _ رضي الله عنها _ مرفوعاً: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله وكبِّروا وصلّوا وتصدّقوا ) [5]. أما المبادرةُ إلى التوبةِ عن الذنوبِ، ورفعِ المظالمِ، وأداء الحقوق، فمؤكَّدةٌ في كلِّ حالٍ، وهي آكدُ في زمن البلاء والوباء؛ لأنها مجلبةٌ للرحمةِ، ومنجاةٌ من غضبِ الله تعالى، وأنى يستجاب عند رفع الدعاء لمتمادٍ مصرٍّ على معاصيه ! ونخيلةُ الكلامِ أن الاحتشادَ في الشوارع للدعاءِ والتماسِ صرفِ الوباء هيئةٌ غير مشروعة، وقد قضى الحافظ ابن حجر ببدعيَّتها قائلاً: (وأما الاجتماع له، كما في الاستسقاء، فبدعةٌ حدثت في الطاعون الكبير سنة تسع وأربعين وسبع مائة بدمشق. فقرأت في "جزء " المنبجيِّ [6]، بعد إنكاره على من جمع الناس في موضعٍ، فصاروا يدعون ويصرخون صراخاً عالياً، وذلك في سنة أربع وستين وسبع مائة، لما وقع الطاعون بدمشق. فذكر أن ذلك حدث سنة تسع وأربعين، وخرج الناس إلى الصحراء، ومعظم أكابر البلد، فدعوا واستغاثوا، فعظم الطاعون بعد ذلك وكثر، وكان قبل دعائهم أخفّ )[7]. ومتعلَّقُ ابن حجر في تبديع المجتمعين للدعاء أن الاجتماع ( لو كان مشروعاً ما خفيَ على السلف، ثم على فقهاء الأمصار وأتباعهم، في الأعصار الماضية، فلم يبلغنا في ذلك خبرٌ ولا أثرٌ عن المحدثين، ولا فرعٌ مسطورٌ عن أحدٍ من الفقهاء. وألفاظُ الدعاء وصفات الدَّاعي، لها خواصٌّ وأسرارٌ، يختصُّ بها كل حادثٍ بما يليق به، والمعتمَد في ذلك الاتباع ) [8] . 2 . الاحتشادُ للدعاءِ في الشوارع ِضررٌ صحيٌّ عامٌ لما قطعَ الطبُّ بأن وباء ( الكورونا ) يسري من طريق التقارب الجسديِّ، وقوله الفصلُ، صارتْ ذرائعُ هذا التقاربِ محسومةً شرعاً، وصارَ الواجبُ في الواقعِ حظرَ التجمّعاتِ؛ لكونها مظنَّةَ استحكامِ العدوى، وباباً لموافاةِ الداءِ في عقرِ دارهِ، وضرباً من إعانةِ الإنسانِ على نفسهِ. ولعلي لا أتنكّب جَدَدَ الحقِّ إذا قلت: إن السَّعيَ إلى أماكنِ التجمّعِ من بابِ تمنّي لقاءِ العدوِّ، وقد نُهينا عنه في حديثِ ابن أبي أوفى _ رضي الله _ عنه مرفوعاً: ( لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية.. )[9]، وعُلِّمنا في مواردَ متكاثرةٍ استدفاعَ الغوائلِ قبل هجومها، فأين أدبُ التحرُّز عن البلاء من وخامةِ التَّعرض له واستباحةِ أسبابهِ ؟ وإذا تمهَّد هذا، استبانَ أنَّ خروجَ مسيرةٍ ليليَّةٍ للتكبير والدعاء لصرفِ الوباء لا يخلو من مآلاتٍ ضرريَّةٍ مخلَّةٍ بالصحةِ العامةِ التي احتشدتْ الدولة لرعايتها بوسائلها الطبية والأمنية، والمياسيرُ بأموالهم وعُددهم. ومعلومٌ أنَّ الشارعَ يقطعُ مادةَ الضررِ الواقعِ والمتوقَّع، فكيف إذا كان عامَّاً متعدِّياً إلى مجموع الأمة؟ بل إنَّ من دأبهِ القضاءَ للعمومِ على الخصوص عند تزاحم الضررين العامِ والخاصِّ. وهؤلاء المحتشدون في الشوارع لا يُؤمن خروج رشاشٍ من عُطاسهم أو لُعابهم عند رفع الصوتِ بالتكبير والدعاء، وربَّ فردٍ واحدٍ يُعدي المئات؛ لأن المصابَ إذا عاد إلى بيتهِ نشر العدوى في زوجته وولده وجيرانه، فاتسع الخرقُ على الرَّاقعِ ! والحاصلُ أنَّ للشارع عنايةً بالغةً بالصحَّة العامة، ولذلك شرع الحجرَ الصحيَّ، ونهى عن ورود الممرض على المصح، وطلبَ الأخذَ بأسباب العافية، وابتغى من وراء ذلك الحفاظَ على كليَّة النفس، وحفظها ضمانٌ لبقاءِ النوعِ وصيرورةِ الخلافةِ. فالتعدي؛ إذاً، على هذه الكليَّة بكسر الحجر الصحيِّ في زمان الوباء كبيرةٌ من الكبائر بالنَّظر إلى ما تؤول إليه من اختلال النظام والانتظام. 3 . الاحتشادُ للدعاءِ في الشوارعِ مخالفةٌ للنظامِ إن لوليِّ الأمر أن يسترسلَ على اجتهاده في تدبير الأزمات، وله في الاستصلاحِ مُسْتَسْعَفٌ، وفي مناهجِ الخلفاء الراشدين بصائرُ. ولا جَرَم أن إعلان حالةِ الطوارىء الصحيّةِ في زمنِ الوباء سياسةٌ شرعيةٌ وقتيةٌ معلَّلةٌ بموجبها المصلحيِّ، ولا يجوز مُناكَدَتُها بتصرِّفٍ أرعن وإن تزيّا بزيِّ الدِّين، وصدر عن حماسةٍ شريفةٍ؛ لأن الأمور بمآلاتها لا بصورها.. ! ولا يصير وليُّ الأمر إلى حظر التجول أو إعلان الطوارىء إلا بعد موازنةٍ وتغليبٍ؛ إذ تعطيل العمل والسَّعي ليس بالأمر الهيّن على الدول، وإذا قُرّر فلمصلحةٍ كبرى تُغمر في جانبها المفاسد.. ومن خرق الحظر فهو آثم شرعاً، ومخالفٌ نظاماً، والطاعة في هذا الباب واجبةٌ لا يتفصَّى منها إلا مفارقٌ للجماعةِ، وساعٍ في خراب الأمة ! والحاصلُ أنَّ الاحتشادَ في هذه المسيرةِ الليليَّةِ خروجُ معصيةٍ لا تُرجى منه إجابةٌ ولا رحمةٌ.. وخروجُ إضرارٍ يوجب التَّعزير والتَّأديب.. وخروجُ من لا فقهَ له في الواقع وتوابعهِ المؤثِّرةِ.. وخروجُ جاهلٍ بواجبِ الوقتِ، وواجبهُ: الصَّبرُ، والطاعةُ، وإماطةُ الأذى، وبذلُ الصدقات.. * أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة الشارقة [1] رواه البخاري رقم: 1889 ، ومسلم برقم: 1376 واللفظ له. [2] رد المحتار لابن عابدين، 2 / 11، وحاشية الدسوقي، 1 / 308، وتحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي، 2 / 68. [3] الإنصاف للمرداوي، 2 / 175. [4] بذل الماعون في فضل الطاعون لابن حجر العسقلاني، ص 316. [5] رواه البخاري برقم: 1044، ومسلم برقم: 901. [6] شمس الدين محمد بن محمد المنبجي الحنبلي ( ت 785 ه )، له جزء في الطاعون، وهو من موارد ابن حجر في كتابه ( بذل الماعون في فضل الطاعون ). [7] بذل الماعون في فضل الطاعون لابن حجر العسقلاني، ص 328 _ 329. [8] نفسه، ص 330. [9] رواه البخاري برقم: 3024 .