هوية بريس – متابعة هذا رد الشيخ عبد الحميد بنعلي على فتوى الدكتور أحمد الريسوني، المعنون ب"تحليل ومناقشة مقالة الدكتور أحمد الريسوني في فوائد البنوك"، جاء فيه: أصدر علامة المقاصد في المغرب الدكتور أحمد الريسوني فتوى في شأن القروض التي تمنحها البنوك للمقترضين مقابل فوائد مخفضة لا تتجاوز 2%. ومحصل هذه الفتوى: جواز هذا القرض للآخذ والمعطي، وقد بنى الدكتور فتواه هذه على ما يلي: 1- أن هذه الفائدة بما أنها يسيرة فهي تُخرج هذا القرضَ عن كونه ربويا إلى كونه قرضا حسنا مشروعا، أو على الأقل تقارب به ذلك، وتجعله أقرب للحل منه للحرمة. 2- أن هذه الفائدة اليسيرة من الواضح أنها ليست ربحية، وإنما من أجل ضمان الخسائر المحتملة جراء إفلاس بعض المقترضين أو وفاتهم إذ من غير الممكن أن يسدد كل هؤلاء المقترضين قروضهم كاملة غير منقوصة، فوجب إذن سد هذا الخلل بفرض هذه الفائدة اليسيرة حتى لا يتضرر البنك جراء هذه العوارض ! 3- أن هؤلاء المقترضين هم في حال الاضطرار الذي يبيح لهم ما هو محرم على غيرهم، طبقا لقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) ولا شك أن الإنسان مضطر الى السكن والزواج واحتياجات عديدة. —————————————————— قلت: ما تفضل به الدكتور الريسوني – وإن بدا سليما من القوادح الفقهية لغير المتخصص – إلا أنه في الحقيقة مصادم بالكلية لأصول الشريعة ومقاصدها ونصوصها، وإليكم التفاصيل: 1- أن الفائدة الربوية لا يشترط لتحريمها أن تكون كثيرة، وإنما قليلها وكثيرها سواء، والدليل لذلك أ- النصوص الصحيحة الصريحة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا (لا تزيدوا) بعضها على بعض"، وهذا نص في العموم، فتحرم كل زيادة كثيرة كانت أم قليلة على ما يفيده نفي الفعل، قال صاحب المرتقى: والنكرات في سياق نفيها ،،، تعم كالفعل الذي في طيها. ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " الذهب بالذهب مثلا بمثل … فمن زاد أو استزاد فقد أربى" ومعلوم أن علة النهي في بيع الذهب بالذهب متفاضلا او نسيئة هو كونه رأسا للأثمان وقيما للمتلفات كما يقوله فقهاؤنا رحمهم الله. ب- أن الشريعة الإسلامية حرمت جملة من البيوع بسبب جهالة التساوي بين أصنافها مثل بيع الصبرة من الطعام بالصبرة منه وهو بيع الجزاف، قال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على أن ذلك غير جائز إذا كانا من صنف واحد؛ وذلك لما روى مسلم، عن جابر، قال: «نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن بيع الصبرة من التمر، لا يعلم مكيلها، بالكيل المسمى من التمر» . وقد نص الفقهاء على أنه لو بيع جزاف بمثله ثم كيلا بعدُ فوجدا متساويين كان البيع مع ذلك باطلا، انظر: (الحاوي للماوردي 5/ 108) ومن هذه الأحاديث صاغ الفقهاء قاعدة ذهبية وهي قولهم : " الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل" فإذا كان مجرد الجهل بالتماثل يوجب التحريم فما بالك بالعلم بعدمه ؟! ج- ومما يدل على تشدد الشرع في هذه الفوائد ولو كانت يسيرة: أنه حرم بيع التمر بالرطب، لما كان الرطب يؤول إلى النقص إذا جف، وهي علة منصوصة، وقاس عليها الفقهاء كل ما هو مثله، قال ابن قدامة: "ولا يباع شيء من الرطْب بيابس من جنسه كالرطب بالتمر، والعنب بالزبيب، واللبن بالجبن، والحنطة المبلولة أو الرطبة باليابسة، أو المقلية بالنيئة، ونحو ذلك. وبه قال سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، والليث، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد. وقال ابن عبد البر: جمهور علماء المسلمين على أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز بحال من الأحوال" وأصل هذا حديث سعد: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – «سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: أينقص الرطب إذا يبس قالوا: نعم. فنهى عن ذلك.» . رواه مالك، وأبو داود، . 2- أما قول فضيلة الدكتور: إن هذه الفوائد ليست ربحية …الخ، فمردود عليه من وجوه: أحدها: عدم التسليم رأسا بأنها ليست ربحية، لأن ذلك خلاف الواقع باليقين، فهذه البنوك ليست مؤسسات خيرية، وإنما هي مؤسسات ربحية تجارية، وكون هذه الفوائد يسيرة لا يلغي صفة الربح، فاليسير اذا اضيف لليسير صار كثيرا بل مليارات الدولارات، فأنت أمام ملايين المقترضين وليس شخصا وشخصين وثلاثة، فأين أنت من فهمك وذكائك يا فضيلة الشيخ ؟!! الثاني: أنه على فرض التسليم بأنها ليست ربحية، فلا أثر لهذا الوصف في الإباحة؛ لأن الربا (أي الزيادة) محرم ولو كان لغرض إنساني كما يقولون، فلو قدر أن بنكا ما صرف فوائده الربوية على المشاريع الخيرية والاوقاف والمساجد والمصالح العامة لم يكن ذلك مسوغا لتلك الفوائد، بل هي ربا وان صرفت في الخير! الثالث: أن كون هذه الفوائد للتغطية على الخسائر المحتملة جراء إفلاس بعض المقترضين أو وفياتهم الخ مجازفة خطيرة جدا من الدكتور الريسوني؛ ذلك أنه يعلم أو لا يعلم أن البنك يأخذ كامل احتياطاته حين إقراضه للناس تارة بالرهن، وتارة بمتابعة الورثة، وتارة بالحجز على الممتلكات، والقانون يخول له الحق في ذلك، وما علمنا قط أن بنكا ما ضاعت قروضه بسبب وفيات الزبناء أو إفلاسهم حتى سمعناه من سعادة الدكتور وفقه الله ! وأحسب أن البنك نفسه لم يفكر في هذا المبرر الريسوني العجيب، فهو إنما فرض تلك الفوائد للربح فقط لا أقل ولا أكثر. 3- أما الضرورة التي ذكرها وكونها تبيح المحظور فهي المتكأ المعهود لمن يفتي الناس بجواز هذه المعاملات الربوية. غير أن هذا رده حذاق أهل العلم بعدم التسليم بالضرورة المدعاة لا بكون الضرورة لا تبيح المحظور، ذلكم أن عامة المقترضين من ذوي اليسار الذي يرفع عنهم وصف الاضطرار كالموظفين وذوي الدخل المحدود، أما المعدمون رأسا فيستحيل أن يقرضهم البنك، بل يطردهم شر طردة. هذا أولا، وثانيا: فإن من شرط اقتراف الحرام عند الاضطرار أن لا يوجد بديل مباح، وهذا شرط متفق عليه بين الفقهاء، فإذا وجد البديل امتنع الاقدام على الحرام، وهذه الأحوال التي يدعى فيها الاضطرار لها بدائل مباحة مشروعة، فالسكن مثلا يمكن أن يعتاض عنه بالاستئجار (الكراء)، والزواج ليس ضرورة أصلا، فقد أمر الله من لم يستطع النكاح أن يستعف حتى يغنيه الله من فضله. وثالثا: فهذا الباب لو فتح لاستباح الناس الربا كله بحجة الاضطرار، وسد الذرائع مقصد مشروع. ورابعا: فالربا في أصله موضوع على الاضطرار ومع ذلك حرمه الشرع، فإن أحدا لا يرضى أن يأخذ العشرة بالعشرين ولا المائة بما هو أكثر منها الا ان يكون مضطرا، فجاء الشرع الحكيم وحرم على الأغنياء استغلال ضرورة المحتاجين، كما حرم على المحتاجين انفسهم ان يقترضوا بربا، ولهذا جاء في الحديث (فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء ) وفي الحديث الآخر: ( لعن الله اكل الربا وموكله) . ————————————————– 4- فإن قيل: اقتنعنا بكلامك أن الفوائد محرمة، فما هو البديل لهؤلاء المحتاجين ؟ فالجواب: أن الشرع ما حرم شيئا الا أباح أشياء، وما أغلق بابا إلا فتح أبوابا، ولكن الناس تضيق عليهم جنة الحلال، وتتسع عليهم مضايق الحرام !! وأول البدائل: القرض الحسن، وهو الذي رتب عليه ربنا سبحانه الأجور الوفيرة {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة} وفي الحديث الصحيح: " إن السلف يجري مجرى شطر الصدقة". وما الذي يضير هذه البنوك أن تقرض الناس من أموالها مقابل ضمانات مشروعة كالرهن؟ ومن البدائل: المعاملات المصرفية المباحة مثل المضاربة، (القراض) ومثل السلم، ومثل المرابحة، ومثل التورق، ومثل البيع بالتقسيط الخ. كتبه لوجه الله تعالى د. عبد الحميد بن عبد السلام بنعلي ليلة الأحد 21/ 6/ 1441 ه